هناك اختلاف فارق بيننا لا يمكن تجاهله في الطرق التي نستوعب بها أو ندرك بها أي عمل إبداعي؛ على سبيل المثال قد يحرك فيّ عمل ما مثل لوحة تُظهر جنوداً في ساحة معركة مشاعر حزن وسخط، فيما تحرك اللوحة في غيري مشاعر فخر وعزة؛ أو قد تستدعي فيك قطعة موسيقية حنيناً إلى زمن فات، فيما تفعل القطعة ذاتها في غيرك حماساً ودافعاً لفعل جميل مستقبلي.. وهكذا.
هذه الاختلافات على تعدد أشكالها تكمل حضور العمل الإبداعي الذي لا معنى مكتملاً له إذا لم يقابله المتلقي. فأي عملية إبداعية لا تكتمل من دون متلقٍ متفاعل، والكتابة بالذات أكثر صنوف الإبداع المرتبطة بهذه المتلازمة، فالقراءة عديلة الكتابة، وتلقيها لا يكون بأشكال قراءة مختلفة فقط، وإنما بقراءة منتجة أيضاً، إذ إنها كثيراً ما تتحول إلى عملية فاعلة وحية بشكل قد يتجاوز إبداع النص المقروء. يحدث ذلك عندما تتوالى الأزمنة وتتراكم الثقافات على النص ذاته، فيأتي المتلقي في زمن آخر ليفك النص بقراءة جديدة تتجاوز ما جاد به النص في زمن كتابته.
يحدث ذلك وأكثر لأن النص المقروء لا يمكن أن يكون منفصلاً عن ذات القارئ، فكل منا يقرؤه ويتفاعل معه بناء على مشاعره وتطلعاته ومخزونه الفكري وظروفه الزمانية والمكانية، وهي عناصر تختلف بالتأكيد من شخص لآخر، وبالتالي فإن تفسير النص أو تأويلاته بناء على ذلك لا يمكن أن تتطابق، على الرغم من تطابق أصل المقروء. بل قد يحدث أن يفاجأ كاتب النص بتأويلات لم تكن في حساباته وقت الكتابة، وقد تفصح أو تفضح عن أكثر مما أراد الكاتب التعبير عنه.