أعرف رجلاً تضخمت الأنا في مرآته الداخلية إلى درجة أنه لو تحدث، تخرج الفقاعات من فمه وتنفجر على شكل فراغ في فراغ، بينما هو يظن أن كلماته هي حكمة الدهر ومقولات الزمن. وأعرف امرأة حملت طفلها على رأسها كي تعبر به نهر التماسيح، لكن النسور هاجمتها من الأعالي، وحين وصلت للضفة المقابلة وجدت أن ابنها صار بقايا ذكريات، ورجلاها بقايا ذهاب. ولو أقلّب الصفحات أكثر، سأقول عن بشرٍ عرفتهم على الورق أكثر من أناس رأيتهم رأي عين، ولكن جُلّهم كانوا يبحثون عن النجاة. خذ مثلاً الطبيب الذي يحقن مرضاه بدواء وهمي اسمه الأمل ويطلقهم في مضامير السباق، ويا للعجب، يراهم يصلون إلى خط النهاية. وخذ مثلاً الغني والفقير حين يلتقيان في حلبة المصارعة التي اسمها (السوق) وكلاهما يظن أنه خرج منتصراً على خصمه في لعبة الشراء والبيع.
هي الدائرة إذن. المكان الذي تتكرر فيه خديعة الوهم فيظن الفرد أنه يمتلك (أنا) خاصة به، وأن الآخر نقيضه أو عدّوه أو غريمه. ثم تبدأ الدائرة تضيق وتضيق إلى أن تصبح بحجم مشنقة غير مرئية، فيختنق هذا بالرغبة في تدمير ذاك، وتكبر الحسرة بينهم كأنها تيار دم حارٍ يجري في عروق الروح. ولا سبيل إلى خلاص البشر من هذا الضيق سوى الانتباه فقط، سوى الالتفات إلى وهم اعتقاد الناس بوجود (الأنا)، وهو اعتقاد مزيّف لا يقع فيه إلا الخائف والمنغلق والجبان. أما المحب، وأما الذي يمتلك قلباً لم يتلوّث بالأنانية، فتراه يشعر أنه ينتمي للكون كله، ويدرك أن الأنا في حقيقتها هي التوحد مع الكون لا الانفصال عنه. وبنظرة أكثر عمقاً، يذهب المحب إلى إلغاء الفروق بين النقيضين لأن كليهما يكمل الآخر. بمعنى أن كل (أنا) ناقصة ما لم تكتمل بنقيضها، وما لم تكن جزءاً من الكل إلى درجة أن الكل يصبح ناقصاً من دونها، وهي تكون ناقصة من دون الكل. والمحب هو رجلٌ سعى يوماً لاكتشاف الحقيقة، فوجدها مخبوءةً في قلبه.
نحتاج في كل يوم إلى اختبار حالة القلب وتدريبه على المحبة. نحتاج إلى الذوبان كلياً في نغمة الكون كي يكتمل لحن وجودنا. ولو حدث أن توحدنا جميعاً وصدحنا بكلمة (الحب)، لرأينا أن كلمة (العذاب) تتلاشى من قواميس ما سيأتي، وتحل مكانها ضحكات أطفال يولدون في فكرة أن العالم يتّسعُ للجميع.