في تلك المساحة التي تحتل قلب مدينة العين القديمة، أقيمت مجدداً بجانب تلك البيوت الطينية أو المصبوغة بالجص أو بيوت عرشان الجريد أول مدرسة نظامية تختلف عن مدارس القرآن المنزوية بجانب المسجد أو بجانب بيوت المطاوعة، ولأنها أول مدرسة، ومحدودة الفصول ضمت أولاً الأولاد الكبار، ولأنني بالكاد بلغت السادسة من عمري، وقد انتهيت مؤخراً من طقوس الختان الجماعي التي أقيمت لنا على يد «درويش بن كرم»، لم يتم قبولي في تلك المدرسة، وسمح لي مدير المدرسة النهيانية الذي يعرفه أبي بالحضور من بعيد، خاصة في الصفوف التي بلا جدران أو من سعف النخيل مستمعاً، ورغم ذلك كنت أصل للمدرسة قبل الجميع، لأنها لا تبعد إلا عشر خطوات من منزلنا التي آخذها وكندورتي في طرف فمي ركضاً، مثل ذلك المستشفى الذي حلّ بجانبها، وبجانب شجرة السدر الكبيرة.
كان صباحي يبدأ حين يدخل جدي من دروازة البيت التي لها صرير خشبي أشبه بصدر عجوز جريح، وهو يهلل ويكبر آتياً من صلاة الفجر في مسجد «سلطان الكندي» الذي يبعد خطوات قليلة، أنهض بغمص عيوني متكاسلاً ومتحاشياً أن يلامس وجهي الماء، وأقعمز لائذاً بموقد نار طرافة النخل التي تشتعل تحت طوبي الخبز، وحديث ونشيج أمي من الدخان، أجلس أراقبها، وأتأمل حركة يدها على العجين، والتقاط خبزة الرقاق بطرف المنقاش، تعرف أمي حبي للعجين، لذا تتركني أنتظر الخبزة الأخيرة التي تكون عادة أكبر من غيرها، كانت تلك الخبزة «اليولة»، هي نصيبي، وأفرح كثيراً إن صبت عليها بيضة إذا ما تكرمت عليّ واحدة من دجاج الدار، وتسهلت أمورها، ولم تنتظر واحداً وعشرين يوماً.
كل تلك الطقوس تختلف إن كان أبي حاضراً، وغير مرتبط بدوام في معسكر الجاهلي، حيث يلزمني بحضور فطور جارنا «بن حارب» وصبّ الدلة عليهما باستمرار وهما يمضغان حبات تمر الفرض السوداء الحوليّة، منتظرين الفطور العادي والذي لا يتغير إلا في المناسبات، خبز رقاق وعليه سمن أو عسل أو سكر أو خبيص أو عصيد أو بلاليط.
حين أخرج من المنزل باكراً أمضي إلى سدرة العويد الكبيرة التي تمسك خاصرة بيت جارنا، وتطل على الشارع الرملي، وألقط النبق إن كان في موسمه، وأملأ به جيب كندورتي «بو كلفس» البنية، وأمر بعدها على مكب مستشفى كند، لعلني أعثر على مجلة ملونة أو قلم في رمقه الأخير، والذي يتحمل شخابيطي لأيام بعد تسخين رأسه، ثم نحو مكب مبنى البريد القديم المصنوع من «البريستي» على طريقة المستعمرات البريطانية في الهند وأفريقيا، هناك قد أجد طابع بريد لبلد لم أكن أعرف موقعه أو رسائل ضلّت طريقها أو غاب أصحابها، قصاصات صحف أو صورة امرأة ملونة لا تشبه نساء العين... وغداً نكمل.