جهتان لا شرق ولا غرب بينهما هما أنت والمرآة. وكلمتان لا صمت ولا جهر كلتاهما، ولكن فيهما نجاتك هما الحب والحرية، وما عدا ذلك مجرد ثرثراتٍ وحشوٍ في القواميس الميتة. ماذا تنتظر إذن، وفي كل صبحٍ يغرد العصفور في أذنيك: رفرف ضد هذا الخدر، حلّق لتلغي الحواجز والحدود. تسمعُ، لكنك لاهٍ وتقرأ في مسودة الفراغ بحثاً عن المعنى، ويراك الناسُ وأنت جاثٍ على الإسفلت تحاول أن تحفر تحته بحثاً عن الطريق. ألم تعلم بعد، أن الذين طاردوا السراب كان مصيرهم الغرق في تلاشيه؟ ألم يقل لك الشعراء ألف مرةٍ، إن الحب هو جوهر كل شيء، وإنك كي تعيش حراً، عليك أن تهدم حاجز الخوف أولاً، وأن تهشّم المرايا الكاذبة التي لا تعكس صفاء روحك.
اذهب للبحر، وسترى أن الموجة تتكسرُ في النهاية ولا يدوم غرورها. واذهب إلى الصحراء وادخلها حافياً، لتكتشف أن الأثر الذي تتركه أقدامك على الرمل هو إلى زوالٍ لا محالة. وأينما وليّت وجه انتسابك، فإن المسرّة التي تفتّش عنها إنما تنبع من صميم قلبك، عندما تتجرد علناً من التعلّق بكل ما هو زائل، وعندما تلتفتُ فقط إلى اكتشاف جوهرك الحقيقي، وتلمس فعلاً معنى وجودك الذي لا يكتمل إلا باتحادك مع الكون كله. وحين يحدث ذلك، ستجد أن الفرح يتولد في كلماتك وتصير بفمك أغنية دائمة.
كان البشرُ يهيمون جماعات جماعات بحثاً عن مصيرهم. ثم خرج من بينهم رجلٌ وقال: لا مصير لقومٍ إلا إذا امتلكوا الحقيقة ورفعوها مشعلاً في ليل مسيرهم الطويل. عند ذلك التفتت امرأةٌ إلى طفلها وقالت: ابني هو الحقيقة الوحيدة. ونظر أحدٌ إلى دوران الشمس والقمر وقال: الحقيقةُ هي الزمن ونحن مجرد عابرين في بحره الدائم. وعاماً بعد عامٍ، صارت تتناسل الأفكار من الأفكار، وولد الشكُّ وصار نقيضاً لليقين، وانتبه المتأملون إلى نزاع النفس بين العقل والقلب وانفصام الذات بسبب جهلها عن نفسها. بعدها صار يجب الاحتكام إلى المنطق، لكنهم وجدوه ناقصاً، إذ كلما جاء فيلسوف بفكرة، ثار عليه الجهلة ورجموه بتهمة الخراب، لتظل البشرية حتى اليوم تتخبّط في دائرة الحيرة وتنفر من جرأة السؤال.
جهتان لدربكَ. إما الوقوف في عدم الفراغ، وإما الخروج إلى الضوء والذوبان في لذة الاكتشاف. ولا يوجد دربٌ ثالثٌ بينهما.