تزهر القراءة في الروح ملؤها السحر، وفي الوجد يستفيض بها العمر، أيقونة لا تكف عن الشغب، وأحياناً ترسم حروفها في سماتها، لتحدق بالقارئ نحو قمر المعرفة، ليهتدي للقادم منها، فهي في كيانها غامضة، إلا أنها تثري خيال البشر، بمُعلّقة من الشعر، قد تناساها الزمن، وقد صانها الحفظ من صون القوافي، يا لها من الأمد البعيد! والجمال فيها مدرسة، ينضج في جوهرها، ويقيم الرثاء فيها العزاء، كالحرير تراها تلف الهدوء والاطمئنان، ويقبل فجرها الورد، أينما النسمات تداعب العقل، وتهش المسارات بالحروف، وتنبئ بالعشق قبل الأوان.
وترخي المشاعر إحساناً، في صورتها الجميلة، حديقة من الثمار، وتبسط الأرض لها من الزهور ألواناً، وتفوح من عطرها الخمائل وتملأ السماء، وتداعب مخيلة العشاق، ويهواها الأصدقاء، وتهوى الدواوين في شغفها العناوين، ويدثرها الحبر روحاً وكتابة، وتمحو الكآبة من النفس، وترمز الكتب للأسرة مكتبات بالعنفوان، هي الصوت الصامت والكامن في اتساع القيم في الضياء، يهمس في الصدور يحررها بعد ضيق، فالكتب تمنح القارئ تألقاً وتمحو ألقاً، كلما يفر المرء من الحروف تلاقيه، فسيفاء لها أعضان وفروع ولها أساطير وزمان وتاريخ، ولها دهاليز تأتي الحياة بلا نقاش، تعبر الأزمنة ولا تهاب، إنها القراءة حين تصفو لها النفس وتنقى بها وتشنف لها الأذهان، هي الحلم في إشراقة الشمس قلما لا تجود بالسلام، تستأذن الوجود ملهمة المثقف في الأنام.
القراءة كأنها كيان لا يوصف بمواصفات دارجة، ولا بمشاهد عابرة، يتصف قلبها النابض بالصحو، ويقال: القراءة وحدها لا تكفي لو يحاط الإنسان بمئات الكتب، ولو يحظى بالمكتبات، لا اكتفاء من دون البحث عن عالم الكتب، وكتابها ومؤلفاتهم، وكل ذي صلة، تنبش القراءة كحال الكتابة في استئناف دائم، بالمراجع الثقافية والأدبية، تحظى على التكامل والتوارد، فإن لم يشمل القارئ النهم نفسه بهذه المهمات الصعبة، وبالمؤثرات الحقيقية، فلا تفتح القراءة نوافذها للعابرين الكسالى، بل مشارفها هي العمق الثقافي المتأصل بما يثري الكتاب الناجح والمؤلف المؤثر، بما يمتلك المنهجية الجاذبة من دون الاكتفاء.
فمصادر الكتب تستند إلى القراءة وقضاياها المختلفة، وتتحدث في تقنياتها وأجندتها وتشريعاتها فالمصادر هي الثروة الحقيقية، الممتعة للقارئ تجره نحو المعارف وسبل مد خيوط التقصي الذي يشبع الذاكرة في استحثاث القدرة على الإقناع الذاتي أولاً، ومن ثم المكونات من حوله، ولكي لا يمتلئ الفكر من دون القناعات فالقراءة وحدها لا تكفي دون حصيلة من المصادر معدة ومبتكرة ومتجددة في سياقها الأبعد والمهم من سوق النفس إلى أمهات الكتب لتأسس القراءة مرادها.