كرة القدم هي مشهد من مشاهد الحياة، والملعب هو مرآة عاكسة لما يسكن كهوف المجتمع، وما يتغور في الذهن الجماعي، هكذا قال الفلاسفة، ولا أظنهم أخطأوا.
خلف كل المساحيق التي تجمل كرة القدم الأوروبية، من تنميقات وتجميل وصروح رياضية مثيرة للدهشة، نحسبها نحن من توصيفات الجمال والإبداع والحضارة، هناك في الوجه ندوب وتشوهات وتعبيرات تفوح منها عفونة التمييز والعنصرية، وتمظهرات للعنف بكل أنماطه المكروهة. قبل «الديربي» المدريدي بين الأتلتيكو والريال بملعب ميتروبوليتانو، في خامس جولات «الليجا»، شغلنا عن الإحصائيات والتوقعات بشأن الحوار التكتيكي المثير بين الأرجنتيني دييجو سيميوني مدرب أتلتيكو وكارلو أنشيلوتي مدرب ريال مدريد، الجدل الذي تداعى على منصات التواصل الاجتماعي، بشأن الرقصة المستفزة لنجم الريال الجديد فينيسيوس، فقد أطلقت جماهير «الروخيبلانكوس» تهديداً ووعيداً لفينسيوس، تحذره من مغبة الرقص بالشكل الذي يثير الجماهير، بل وتهدده بمشاهدة جحيم لا يطاق، وهو الوعيد الذي قابله فينيسيوس بالاستخفاف وقابلته إدارة الريال بدعمها المطلق لساحرها البرازيلي، وتنازلت إدارة أتلتيكو عن أنفتها، بأن دعت جماهيرها بعدم توريط فريقها في غرامات مالية، وفي عقوبات مثل التي أنزلها بها الاتحاد الأوروبي لكرة القدم الموسم الماضي في مناسبتين، إحداهما في مباراة دوري الأبطال أمام مانشستر سيتي، وكان من أوجه العقاب أن أقفلت المدارج التي انطلقت منها الصيحات العنصرية.
لا فينيسيوس ولا مواطنه رودريجو موقع هدف الريال الأول تورعا عن التعرية على الجرح، وهما يكرران ذات الرقصة فرحاً بالهدف، ولا جماهير الأتلتيكو ابتلعت لسانها وأحجمت عن التحرش اللفظي، إذ كررت لمرات كلمة «قرد» بخلفيتها القبيحة قبل نهاية المباراة، ولا أتلتيكو مدريد اتسم بالنخوة وقدم الاعتذار لفينيسيوس عن العنف اللفظي الذي تعرض له. وللإمعان في تحقير هذه النعرات، سينشر رودريجو على حسابه الشخصي صورة الرقصة إياها مع زميله فينيسيوس، معلقاً عليها بعبارة «رقصة بيضاء وسوداء»، بيضاء إحالة على اللون الملكي، وسوداء تعبيراً عن لون بشرة النجمين البرازيليين، فيما أرسل ريال مدريد عبارة أجمل، قال فيها: «مدريد ليس لها إلا لون واحد».
طبعاً هذا الذي شهده ملعب أتلتيكو من تعدٍ صارخ على الأخلاق، لا يمكن أن يكون حالة معزولة في ملاعب إسبانيا، كما يدعي الإسبان أنفسهم، وكما يصورون ذلك بصمتهم المريب، فقد تكررت في ملاعب «الليجا» خلال المواسم الأخيرة، الكثير من المشاهد القبيحة والمرفوضة في عُرف كرة القدم من تعبيرات سيئة ومن حركات تمييزية، استنكرتها الحركات المناهضة للعنصرية وطالبت باستعمال الغلظة والصرامة في مواجهتها، لأن السكوت عنها أو حتى معاقبتها بأخف العقوبات سيجعل إن آجلاً أو عاجلاً، من كرة القدم حافظة القيم بؤرة لتدمير الأخلاق، فمن يرضى بهذا العبث؟