من حفلات الوداع، ومن مهرجانات التكريم شاهدت العشرات، أساطير تأتي في لحظة بتاريخها وشموخها وعظمتها لتضع النهاية الحتمية لمسيرة الأبطال، وتكون اللحظة قاسية على الجميع، فالدموع هي أفضل وسيلة للتعبير عن مشهد احتفالي وتكريمي، مؤلم وموجع في فرحه وحزنه.
لكن ما شاهدته في حفل اعتزال أسطورة التنس روجيه فيدرير كان إعصاراً قوياً يحطم المشاعر، لا أتصور أحداً ممن تابعوه على المباشر من لندن، أو شاهدوا مقتطفات منه، تمالك نفسه إزاء ما شاهد، فقد وصلت الحبكة الدرامية درجة هلامية دمرت المشاعر وجعلت حفل التكريم بكل حمولاته الإنسانية، ينقلب إلى مأتم حقيقي، تجري فيه الدموع على المآقي، مجرى المياه في النهر وهي المتدفقة من شلال هادر.
كان رائعاً أن نشهد لقاء اعتزالياً من هذا الصنف، يسدل الستارة بمباراة تكريمية على مسار أنطولوجي لملك الأرقام القياسية وسيد الجوائز الكبرى لرياضة التنس، روجيه فيدرير، يحضرها إلى جانبه أسطورة حية أخرى هو رفائيل نادال، وقد تبارى الرجلان معاً في رفع مؤشر الإبداع والمتعة كلما التقيا في دوري من الدوريات، إلى مستويات قياسية.
بالطبع لن أعرض عليكم أرقام فيدرير التي تصيب بالدوار، ولا إحصائياته التي تثير الدهشة، ولا ألقابه التي تضعه على رأس الأساطير، فهذه بنقرة بسيطة على حاسوبكم أو هاتفكم الذكي، ستأتي إليكم طيعة فتسكن قبل أرشيفكم ذاكرتكم، ولكنني ميال أكثر لأتحسس هذه الكمية الرهيبة من الأحاسيس التي رمى بها حفل اعتزال الأسطورة، ولألتقط الصور القوية التي صدرها المشهد التكريمي.
برغم أن زوجة رفائيل نادال كانت تمر من فترة حمل صعبة بل ومعقدة، واحتاجت من البطل الإسباني لكي يتنقل بين إسبانيا وبريطانيا متحدياً الظرف القاهر، إلا أنه أصر على أن يكون حليفاً لزميله وشاهداً على لحظة الوداع، وأن يكون جزءاً من الدراما التي تسبب فيها الحفل الاعتزالي، فمع اقتراب المباراة التكريمية من نهايتها شع من عيني فيدرير ونادال بريق، أشبه ما يكون بذاك الوجع الذي يسبق الولادة، بذاك العصف والزمهرير الذي ينبئ بقدوم العاصفة.
وما هي لحظات، وقد اكتمل الفصل الأخير من الرواية الجميلة للسويسري فيدرير مع الكرة الصفراء، حتى انخرط روجيه ومعه رفيق الإعجاز نادال في بكاء شديد، مشهد حزين ومؤثر سحب الدموع، حتى تلك المتحجرة، من العيون التي كانت شاهدة على نهاية مسار خرافي لبطل قضى ربع قرن في كتابة فصول جميلة في كتاب الخلود.
فيدرير الذي كان كارهاً للهزيمة، ساعياً لصناعة الانتصارات، متحمساً باستمرار لفتح الأبواب الموصدة، فأنتج للتنس العالمي ملحمة خالدة، هو من قال عنه نادال: «عندما يذهب فيدرير يذهب جزء من عمري معه»، وهو نفسه الذي بكى بكاء الأبطال والرجال الذين يعز عليهم أن يتركوا محفلاً يصنع سعادة الناس.