ترى الينابيع أحياناً وكأنها من بعيد تسحر الألباب، أياً كانت صورتها الحقيقية أو المجازية، وقد تهيمن الصورة على العقول، أياً كانت فطرة هذه العقول أو أياً كانت تصاويرها الثقافية المتجسدة في مكونها، أو أياً كانت الصورة الآتية هزيلة قادمة من عالم آخر لا يمتّ لها ولا لثقافتها بصلة.
ربما هذه قصة من هلاميات زمن مضى لا يكترث لها، زمن بعيد لم يكن يعرف العالم حينها ماذا يعني الهلوين أو لم يكترث للحدث كما يبدو الآن، ولم نكن نعرفه كل المعرفة إلا في بداية رحلتنا الدراسية إلى أميركا، فما كان يدور في خلدنا أنها رحلة أولى ولم يسبق لي ولا لزملائي الثلاثة أن ساقتهم الأيام لرحلة كهذه من قبل.
هبطت الطائرة عصراً، نهاية شهر أكتوبر من عام 1983 في مطار صغير بيوجين، مدينة على ساحل المحيط الهادئ، فاستقبلنا سائق الجامعة بالترحاب قائلاً: أنتم طلبة جامعة أروجن القادمون من أبوظبي؟ قلنا بصوت فرح: نعم. وبدت علينا بعدها حالة الاطمئنان لدقائق، وعاد ليساورنا الشك من جديد بأن السيارة المتجهة بنا لا تبدو إلى مدينة كورفالس ولربما يحيد بنا السائق إلى مكان آخر! وما كان ذلك إلا مجرد مخاوف انتابتنا، وتبددت بالهمسات والضحكات.
تناسينا مخاوف الطريق المجنونة المقترنة بعالم ربما جسدته الأفلام الأميركية نفسها، وما أدراك ما جسدت من صور مترامية الأحداث، ومفبركة، عن مشاهد المدن المخيفة في جوهرها، الشقية في مجتمعها غير الآمن التي ربما حملناها في مخيلتنا!
لكن ساقنا القدر بأن يكون وصولنا في ليلة حفل الهلوين التنكرية، وما كانت لنا دراية بها، فكيف لنا في ذاك الوقت أن نفهم مدينة متنكرة عن بكرة أبيها؟ وكيف لنا أن نتعامل مع حدث لم نسمع عنه من قبل حتى في قصص جداتنا ولا في موروثنا ولم نتهيأ لحدث مثله قط؟ حفل يخص ثقافتهم وعرفهم أكثر مما نفهمه بأن هناك عالماً مجنوناً ومحيّراً لم ندرك حالته في أقصى ما قرأنا عن حالة المدينة جغرافيا وتاريخاً.
لم يكن السكن الجامعي بعيداً عن طقوس المدينة، وكان ترحاب السيد فيكتور ترحيباً جميلاً في لغته وشرحه وتفاصيل العيش، وكذلك زميلته تجسد في طقوسها التنكرية لباس الرومان القديم! صور لا تزال تعلق في الذاكرة كلما حلت ليلة الهلوين! ليلة من تجول وترحال ثقافي عبر السنوات، وما تجسده صورة العالم وهو يلتحم بعد احتدام فطري وتباعد لأي ثقافات ومعتقدات سعياً أحياناً لعدم محو ما توارثته الشعوب، إلى انفتاح سريع في الطقوس والعادات! فما كان اختلافات بات يعم العالم! وما كان ينم عن تباعد بات يلتحم ويستنسخ في موروثه، ويتناغم في صوره وفي تجواله ما بين شعوب العالم.