كان هذا شعار ملتقى ضم مجموعة من الناس المجهولين، وسأتركهم كذلك إلى أن نصل عزيزي القارئ لمفردات أكثر وضوحاً لتعريفهم. تعود خلفية أفراد هذه المجموعة إلى بيئات مختلفة ومتباينة جداً من حيث العمر والعرق والدين، وغيرها من أشكال الاختلافات التي نعرفها، غير أنهم وفي زمن ما من مسيرتهم الحياتية التقوا مع بعضهم بعضاً، واجتمعوا فيما بينهم على ما يمكن أن نطلق عليه «ثقافة التعافي». وكما نعرف فإن التعافي يعني التخلص من تبعات المرض، وعادةً ما يأتي عقب العلاج من الإصابة بالمرض، وفيها يخضع المريض لشروط حياتية لكي يسترد عافيته السابقة، وعادة ما تكون هذه المرحلة قصيرة نسبياً ما بين أيام لمرضى مثل الإنفلونزا، أو لشهور مثل المصابين بكسور في العظام على سبيل المثال، غير أن هناك أمراضاً تستدعي المكوث في «التعافي» باقي العمر، منها على سبيل المثال مرض السرطان، ومرض الإدمان الذي يستلزم من المصاب نظاماً حياتياً خاصاً لكي يحافظ على تعافيه عبر التضييق قدر الإمكان على فرص عودة المرض.
وعودة على شعار الملتقى والمجهولين الذين أقاموه، فإنهم اجتمعوا ليحتفلوا بسنوات تعافيهم التي تراوحت ما بين شهر وثمانية وعشرين عاماً من مرض الإدمان على المخدرات. اجتمع المجهولون ليعلنوا أمامنا شكل الثقافة التي جمعتهم وجعلتهم ينعمون بصحتهم واستعادة حياتهم التي سلبتها المخدرات. أستخدم هنا مفردة ثقافة لأنها تمثل تماماً شكل الحياة التي اختارها هؤلاء الأفراد للعيش رغم تباينهم -والذي يعرف بـ«زمالة المدمنين المجهولين»- عبر اتخاذ أسلوب جلي في التفاعل مع محيطهم المعتمد على معايير واضحة وقيم متعارفة تجاه الأعراف، وآلية تنفيذ ذلك عبر مفردات معينة في اللغة وأساليب التواصل، وسلوكيات تعاضد وعطاء غير مشروط فيما بينهم تحترم خصوصية كل فرد، معتمدين في ذلك على جلسات تواصل مستمرة لمساندة بعضهم بعضاً لمقاومة إغراء التعاطي وتقليل مخاطر الانتكاسة إن حدثت، بالإضافة إلى دعم المتعافين الجدد.
وعلى الرغم من انتشار مصطلح Drug recovery culture في المجتمع الغربي، إلا أنه يكاد لا يذكر في المقالات والدراسات العلمية والمؤتمرات المعنية بالمخدرات وتعاطيها في مجتمعاتنا العربية، فلا تذكر ولا تطرح ثقافة التعافي إطلاقاً في أدبيات النقاش المتداول، فيبدو الأمر وكأن المعنيين صبوا كل جهودهم على منع الوصول إلى المخدرات كدور احترازي، أو تخليص المتعاطين من إدمانهم كدور علاجي، من دون اعتبار أن المشكلة لا تكمن في التخلص من المخدرات فقط، وإنما في مرض الإدمان نفسه، وتهيئة المدمن للتعامل مع حياة يكون فيها رافضاً للمخدر حتى لو كان متاحاً وقانونياً. ولأن هؤلاء المجهولين يدركون ذلك تماماً، ويعلمون مدى الألم الذي يعانيه المدمن والصعاب التي يواجهها ليبقى على تعافيه، قدموا نماذجهم الناجحة والملهمة في ذلك الملتقى الذي عقد في أبوظبي يوم 12 نوفمبر الجاري، وحضره ما يقارب من 200 متعافٍ، وبعض من ذويهم ممن كانوا يحلقون فخراً بهذا الأمل الجديد.