ثلاثون شاعراً حملوا نعشاً فارغاً وطافوا به في المدينة. رمت النسوةُ من الشرفات مناديلهن المبللة بالدمع. صرخ مدرسٌ من نافذته الموصدة: لا توقظوا التاريخ من نومته الهانئة. لم يتجرأ أحد على القفز والتمدد في هذا النعش سوى الفيلسوف. رآهُ الصبيةُ وهو يراكم أوراقه فوق بعضها بعضاً ليصنع منها سلماً ويصعد نحو اللانهاية. وكانت تلك بداية ما حدث فعلاً، أو ما قيل إنه (يوم الحقيقة)، عندما اختفت الأقلامُ جميعها من الأصابع، وعندما صعد رجلٌ يدّعي أنه يعرف كل شيء، ليبارز رجلاً يعترفُ بأنه يشكُّ بكل شيء. وكانت الحلبةُ تكتظُّ بمتزمتين على الجهة اليمنى ومصفقّين من الجهة الثانية. لكن، حين دقّت الأجراسُ، وحين راهن كل موهوم على نصره المؤقت، سقط المتصارعان كلاهما أرضاً، ولم يبق واقفاً سوى الحكم الأخير، وهو الرجل الذي اختار الحياد كي يفهم الحقيقة أينها؟ وقف وقال للشعراء: ادفنوا صوتي في قصائدكم، أنا رجلٌ فانٍ، وخلودي أن تبقى كلماتي جمراً في يد الغيب، أو مطراً يدكُّ غفلة الأيام الساهية.
لا تغادر للنأي: قالت امرأةٌ عاشقةٌ للفلسفة. لا تحمل حجراً، لا ترمهِ في ماء سكوننا، لا تشعل الفلتان: قال رجلٌ مطمئنٌ ولكنه بلا فم. ثم شاع بين طلاب المدارس أن الصمت واجبٌ منزلي، وتناقلت الفتياتُ على هواتفهن صورة شابٍ نصفه الأيمن قلمٌ ونصفه الأيسر مصبوغٌ بأوشامٍ من حضارات بائدة. وسيمرُّ يومٌ، ويمرُّ عمرٌ، ولن يهتدي أحدٌ إلى فهم ما يجري أو فهم ما جرى. لكن الفيلسوف، وهو رجلٌ يقرأ الدهر ويحاول تفسيره، سيكتبُ، ولو بأصابع يده على الرمل، أن البشر هواةُ تقلّبٍ وتمردٍ وضجر! وهم أنفسهم من ينحتون تمثال الفيلسوف في أروع صورة، وهم أنفسهم من يتنكرون له بعد حينٍ، ويهشّمونه.
كن أبي أيها الفيلسوف، كوني أمي أيتها الحقيقة، ولا أريد إخوةً بعد ذلك إلا الأنهار التي تظل تجري إلى ما لا نهاية. ولا أريد أخواتٍ جميلاتٍ إلا الأشجار حين ترقصُ في ثورة الريح وتكشف بعضاً من زنود أغصانها. حبواً سألاحق الفراشات، ركضاً سأسابق النسور غيمة بعد غيمة. أنا احتفال الروح وتفتّح جناحيها. أنا سموّ الفكرة وحارس مسكنها وبذرتها وراوي شموخها.
هل قلت للشعراء: ادفنوا فيلسوفكم في البحر؟ بالتأكيد لا. بل تركتهم يطوفون بنعشه الفارغ على خشبة مسرحيةٍ لا تنتهي أبداً!