من مفردات الحياة وقيمها تواجد الأضداد فيها، وقديماً قيل: «والضد يظهر حُسنه الضد»، فالأسود يتجوهر في وجود الأبيض، والعكس صحيح، ولطالما كان الصراع والتصادم بين الأضداد في الحياة، فالخير يتجلى حين نعرف الشر، والعدل يعلو حين نضيق بالظلم، وهكذا الجمال والقبح، الحديد والنار، الماء والعطش، الخضرة واليباس أو التصحر، الحرية والعبودية، ولقد فاضت الآراء والمدارس الفلسفية عبر التاريخ الطويل في التصدي وتفنيد مثل هذه الحالات.
ومؤخراً شهدت أيام وفعاليات المؤتمر الدولي للفلسفة الذي نظمه بيت الفلسفة في الفجيرة، وضم نخبة من أرباب الفلسفة ودارسيها ومدرسيها، كانت أياماً ممتعة ومحفزة للرأس، وفرصة للتجاذب والتحادث مع النفس، ومع الآخر، لكن في يومها الأول حدثت تلك المفارقة، وهي مقارنة لم نكن نطلبها، ولكنها جاءت هكذا محض صدفة، وبعد انتهاء فصول وفعاليات اليوم الأول، انطلقنا إلى الغداء في ذلك المطعم البحري الكبير، وجميع الرؤوس المشاركة كانت إما ممن تخطوا الستين حولاً أو ممن هم ضعاف البنية، وكل واحد منهم، لابد وقد قرأ آلاف الكتب، فنظرية الفلاسفة معروفة: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، وكانوا بعد أحاديث المنطق والعقلانية، والراهن، والمرتهن والمُعاش، وهم يتمنطقون ببذل أمهات القطع الثلاث لشدة برودة ذلك المطعم وتكييفه المركزي، وتحلقوا على مائدة الطعام، وما تزال أحاديثهم تُشرّق وتُغَرّب بين مفهوم الخطاب الماضوي، وأبستمولوجيا المعرفة، ومدى التباس واقتباس السيرورة والصيرورة، ومن ذلك الحديث الثقيل في كل الأوقات، فما بالكم وهو حديث على مائدة الفلاسفة ومناقشاتهم التي لا تنتهي! المهم في تلك الأثناء دخل علينا شخص من مفتولي العضلات، ويبدو أنه مارس رياضات عدة دون أن يبرز في واحدة منها بدرجة تصنيفية عالية، فظهر بتلك الفانيلة التي تشبه شراعاً مزقته الريح، وكل جسده المفصل يظهر منها، معتداً بكمال الجسم، ورغم رياضة كمال الأجسام التي هو منضبط على أداء تمارينها في اليوم مرتين على الأقل، إلا أنه كان أشبه بكمال الأجسام البشع، بتلك العضلات التي تشبه عرق شجر يابس، اصطدم بجمهرة الفلاسفة، ولم يسلم من تعليقهم الحار والحامض، فلاحت لي حينها لحظات من التأمل وعقد المقارنة، وكيف يمكن أن يجتمع الضدان في مكان واحد، الفلاسفة بتلك البدل البنية والرصاصية المخططة، ويكحون كل ربع ساعة إثر دخان سجائر طال أمدها معهم طويلاً، ولا يريدون التخلص من تلك العادة، وصحونهم الخفيفة بالكاد فيها ما يسد الرمق، كانوا أشبه بحكماء أثينا، وذلك المعضل بسرواله القصير «بوكسر» وفانيلة رثّة، الخبّاز يعف عن ارتدائها وهو يقابل تنوره، وبحذاء «باسكت» من دون جوارب طبعاً، لزوم الخفة، وكأنه آت من حلبة من حلبات المصارعين في روما؟! كانت فرصة للمقارنة بين قوة الجسد وقوة الرأس، «تقول أحد مسلّطنه عليهم لينقض كل أطروحاتهم الفلسفية، ويجعلهم يصكون القاع»!، وإن هناك قوة للسيف والعضل، وقوة للرأس وللعقل، وهناك خوف من الاثنين، وأيهما يموت أولاً؟ وأيهما مصدر رزق دائم ومتجدد؟
مقارنة الرأس بالجسد أو العقل بالبدن أو المخ بالعضلات هي مقارنات فلسفية، وتطرق لها فلاسفة ودارسون منذ زمن بعيد في التاريخ.. السيف والقلم، السياسي والثقافي، السلطة والتنوير العقلي، كلها عدّتها المجتمعات أضداداً، وقلة من تلك المجتمعات من حاولت إلغاء القطيعة بينهما، بين أداة تغيير فعلي وتنفيذي، والثاني أداة تفكير وتنظير من أجل خلق نهضة وتغيير واع في المجتمعات.