الشعراء والفنانون يمشون ويتعثرون بصور لملهمات في طريقهم، وتفاصيل يومهم، خاصة في أسفارهم وتنقلاتهم، ولحظات استراحاتهم من إيقاع الحياة العادية والمضطربة، نساء يضربن حولهم في لحظة ما موعداً مع الإلهام والتجلي وتحفيز متسارع نحو الإبداع بطريقة ما، كثيرات من يمررن أمامهم، وقد لا يعرفن أنفسهن، وما صنعن في تلك اللحظة المتجلية والملهمة للشعراء والكتّاب والفنانين، تظهر في غيابهن اللوحات والقصائد والقصص عن شخصيات من الحياة مجهولات، لكنهن متجليات في أعمال لا يكشف عنهن، ولا عن وجوههن، وقد ينسحبن من حياة المبدعين بعد تفريغ ذلك الشحن العاطفي والتوهج الإنساني، وربما تضمحل الملامح لكنهن موجودات في قاع ذكريات رؤوس أولئك الذين يتصيدون اللحظات والأفكار والوجوه، ولا يجعلونها تمر هكذا، الملهمات المجهولات لو يدرين ماذا فعلن في تلك اللحظات في رؤوس المبدعين لتمنين عليهم لو أنهم أعلنوها جهاراً نهاراً أو ليتهن عرفن ليخزنّها لأوقات خريف العمر والوحدة وتذكر الشباب النضر الذي هرب بسرعة.
كم من قصيدة بلا وجه حقيقي غير ذاك الوجه الذي صاغه وأعاد رسمه الشاعر في قصيدته الخالدة أو تجلى في لوحة رسام تمنى كثيراً لو أنه استطاع أن يضم صاحبته في عوز فاقته، ووجع ألمه، وأدفأت ضلوعه في شتاءات المهجر والتعب الإنساني، وكم من لوحة أو موسيقى استلهمت من وجوه عابرة لم تتمهل كثيراً لتعرف.
الملهمون والملهمات في حياة المبدعين كُثر، ويتوزعون من وجه جميل، ونظرة عين خاطفة، وتفاصيل أنثى رعوية، وشعر تتجاذبه الريح إلى وجوه بائسة مطحونة ومثقلة بآلام الصلب وتجرع أحزان الحياة، إلى طفولة بريئة، ورجل مثل جبل هزمته الريح والكلمات الناقصة، والدمعة الباردة، الملهمون من كل الأجناس وفي كل الأزمنة ومختلف الأمكنة هم كغمائم من غبش تمر أمام عيون المبدعين، ليظهروها لاحقاً صافية للمجتمع والحياة، وتمشي بين الناس كظلال لشخصيات كانت هنا، وقد تلتقي الشخصيتان، الملهمة والمبدعة في تقاطع طرق الحياة ولا تعرفان بعضهما بعضاً.
كم من تلك الملهمات المجهولات اللاتي مررن على عيني المتنبي، وامرئ القيس وكعب بن زهير وعمرو بن أبي ربيعة؟ أو من الملهمين في حياة ولادة وليلى الأخيلية والخنساء؟ كم هن نساء نزار قباني ومحمود درويش؟ وهل بيكاسو بريء؟ وماذا عن سلفادور دالي؟ هل ماركيز اكتفى بوجه «مرسيديس» وحدها نافذة للإلهام؟ ترى كم هن ومن هن أولئك الشخصيات الملهمات للروائي نجيب محفوظ الخلوق والمحافظ، واللاتي جعلن من شخصيات رواياته متمردات معلنات العصيان والخروج من قبضة «سي سيد»؟ كم تخيل ناظم حكمت في سجنه من وجوه لنساء ماكثات في رأسه، مخترقات أسوار وأسلاك سجون الديكتاتورية العسكريتارية، مفتشاً في زوايا قريته عن نساء كن يثقلن نهار يومه، ويرجفن ساعات ليله؟ هل عنترة اكتفى بوجه عبلة أم أن هناك «عبلات» كثيرات في ذهن ذلك الفارس الشاعر النبيل الذي يكون أول المتلقين للسهام والرماح، لكنه يعفّ عند المغنم؟.
الشعراء الشعبيون والغنائيون، كم تسمّروا أمام حلم طيف مرّ خَطّافي، كم هزّتهم تلك الغزالة البرّية أو تبعوا صاحبة مشي القطا لا ريث ولا عَجل، وكم في زمننا القديم دخل شاعر «اليوله» لأن واحدة من النعاشات ألهمت بصيرته الشعرية، فدخل الحلبة بـ«محزم متروس بالرصاص، وخرج ومحزمه خالي»، كان لا يطيب الصيف وحضّاره ونقاوة رطبه إلا ومجدول العقص زاهٍ وسط روضه أو ضاحكٌ من خلف الشيل الرهايف.