دار الساقي العريقة تغلقُ أبوابها في لندن. وقبلها بفترة قليلة توقف مشروع مجلة «بانيبال» التي تصدر في لندن وتهتم بترجمة الأدب العربي، وهي الآن معروضة للبيع في حال تبنتها جهة ما. وقبلها توقفت صحف ومجلات أدبية ومنوعة كانت تصدر في لندن، وماتت مشاريع ثقافية كثيرة، إعلامية وتلفزيونية كانت كلها تأمل بتكوين خطاب ثقافي حر ينطلق من عاصمة الضباب بعيداً عن سلطة الرقابة. لكن بمراجعة هذه الجهود الكثيرة، نحتاج إلى دراسة قوة تأثيرها على الثقافة العربية في العمق وليس على المستوى السياسي والإخباري؛ إذ ظل الخطاب «الثقافي» الذي يصدر من هناك غير ملتصق بالأرض العربية، وتحكمت الأيديولوجيا في كثير من مفاصله. وبدلاً من أن يتوحد العرب المقيمون في لندن لتكوين خطابهم الجماعي، نقلوا اختلافاتهم إلى هناك. وكان الأجدى أن تتراكم هذه التجربة ويصبح تيار الثقافة العربية مؤثراً ومستمراً، وبالأخص حين ندرك أن الكثير من الجامعات البريطانية تخصص مجالات مفتوحة لدراسة الأدب العربي وترجماته وتاريخه، وهي تحتضن الكثير من الكنوز المعرفية الخاصة بتراثنا من تركة الاستعمار والاستشراق الذي طال مناطق وبلداناً شاسعة من وطننا الكبير.
شكّل الحضور العربي في مدينة لندن حالة متفردة في تاريخنا الحديث، فقد كانت هذه المدينة رمزاً لحلم كثيرين بالحرية. ووصف لنا الطيب صالح في روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» ماذا حدث لبطله مصطفى سعيد حين انتقل إلى عالم آخر هو الحضارة الغربية (لندن) ليعيش تناقضاته وأسئلته الوجودية وارتباكاته أمام مشهد المدنية. أيضاً لجأ الشاعر الكبير نزار قباني إلى لندن بعد مقتل زوجته بلقيس، وخلال إقامته هناك التي امتدت لنحو 15 سنة كتب عشرات القصائد السياسية والعاطفية ومن بينها قصيدة «لندن» التي يبدؤها بمطلع: شهر ديسمبر في لندن رائع، منذ هاجمني الحب وألقاني جريحاً كمصباح الشوارع.
هيمنت لغة الاغتراب على معظم الإنتاج الأدبي الذي كتبه العرب في لندن، بل إن الشاعر العراقي صلاح نيازي أسس مجلة بعنوان «الاغتراب الأدبي» مع زوجته سميرة المانع في عام 1984 بهدف توحيد خطابات المثقفين العرب على رغم اختلافاتهم السياسية، وهو مشروع استمر لسنوات ولكنه توقف في عام 2003. أيضاً توقفت مجلات عربية كثيرة من بينها «الكاتبة» المتخصصة في الأدب النسائي التي أسسها الشاعر نوري الجراح واستمرت سنوات عدة ثم توقفت.
عشرات المجلات والمبادرات الثقافية انطلقت من لندن، مات بعضها، وغيرها بالطبع آتٍ في الطريق.