كلنا انتقلنا واختلطنا وتغيرنا قبل أن نصل إلى مُستقر، قد يحدث أن يكون ذلك المستقر هو المكان نفسه الذي انطلقنا منه أو الذي سننطلق منه إلى رحلة جديدة.. وهكذا. وسواء كان هذا الانتقال زمنياً لا سلطة لنا عليه أو انتقالاً مكانياً مضطرون إليه لعدد لا متناهٍ من الظروف أو انتقالاً فكرياً من قناعة إلى أخرى مختلفة كلياً، المهم أنها كلها أحوال تؤكد أننا مخلوقات متغيرة ومهاجرة جبلت على الترحال، وأن ذلك طبيعة إنسانية لا تعيبنا، بل قد يكون المعيب عدم إصابتنا بها. أقول هذا وكلي غبطة من أولئك الذين لديهم جرأة على إعلان ذلك -خصوصاً- بهدوء تام، أولئك الذين يتحركون بناء على ما يعتقدون أنه الأنسب لاحتياجاتهم ولظروفهم، بل ويخبرون علناً أن ذائقتهم تغيرت وتوجهاتهم تتجه حيث ما وجهتها متطلباتهم الجديدة، غير ملتفتين لما ينتظره الآخرون منهم، ليسوا معنيين بوعود ولا التزام!
في اللغة، لكلمة «الهجرة» مترادفات عديدة، منها الرحيل والابتعاد والترك والنزوح والإعراض والبرح والمغادرة، ولكل مفردة أحوالها المتغيرة، غير أن الثابت الوحيد في كل تلك الأحوال، أن القائم بهذا الفعل لن تبقى ذاته على حالها، إذ سيعاد تشكيلها بشكل أو بآخر. تمر على الذات أوقات قد تعتقد فيها أن أحكامها أبدية صائبة وأسئلتها منطقية وحججها حقيقية، ولكن الصواب الوحيد هو أن هناك أموراً لا نعرفها قد تغير كل الحقائق التي تؤمن بها ذواتنا. دائماً هناك ما لا نعرفه، ولأننا كذلك تظل معرفتنا محدودة، لا تتسع إلا بالقدر الذي نسمح به لأنفسنا بالتأمل ومراجعة قناعاتنا، فإما ازددنا تمسكاً بها أو هجرناها وسمحنا لأنفسنا بالرحيل إلى غيرها.
تعرف الأمور بأضدادها، قلة من يدركون المعنى الحقيقي والعميق لهذه العبارة، فبقدر المجهول يمكننا فهم المعلوم، وبقدر استيعابنا لما هو خلفنا يمكننا توقع ما هو أمامنا، والحقيقة أن الحياة تمنحنا كل شيء، ولكن لا يمنح الأشخاص لأنفسهم فرصة للاستفادة من هذه المنحة. إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يستذكر هذه الحقيقة ويُفعلها استثماراً يذهب به إلى توسيع ومضاعفة سنوات حياته في معرفة ما لم تسمح له حدوده الطبيعية بالوصول إليه. يقضي البعض عمره في استيعاب محيطه، ذاهباً إلى عمق واقعه، منغمساً فيه، معتقداً أن هذا كافٍ، فيما يذهب البعض الآخر إلى محيطات أخرى بعيدة عنه بأميال، لاكتشاف ما لم يصل إليه إنسان قبله، ثم يعود إلى حدوده الأولى، ولكن أكثر فهماً وإدراكاً لواقعه.