ناءٍ في خيالٍ محض، وخطاي في بحرٍ ويداي في لهبٍ مشاغب والأنا نصفُ أنا. كنتُ في البداية رسماً على جدار كهفٍ يعبره المنجّمون ليلاً وتحاصره الضواري إذا اشتدت الريح. ثم جاءت امرأةٌ عمياء وغطّت كتفي الأيسر بمنديلها المبلل بالدموع. بعدها جاء رجلٌ بصيرٌ وصار يرجُّ هيئتي الحجرية فتفتحت عيناي ورفرف لساني ثلاث مرات بكلمة: الحياةُ الحياةُ الحياة. ومثل قطرةٍ، كبرتُ إلى حجم موجة. ومثل بذرةٍ، ارتفعتُ بطول شجرة. ها أنا اليوم إنسان عصرٍ مقلوب. إن وقفتُ قرب فرنٍ لاهبٍ قالوا إنه سليل عطش. وإن حملتُ مطرقةً وهشّمتُ زجاج القطارات المتوقفة، قيّدوني على سكك الحديد الصدئة وركبوا خيولهم ورحلوا.
اليوم، أمشي موصد العينين والفم وذاتي نصف ذاتي. أجلسُ على مقعدٍ وثير في قاعة السينما وزمني ليس من زمني. أغطّسُ ساعتي في الحبر وأترك عقربها يكتب رسائلي العرجاء. وإن مر رجل وسيمٌ تحت نافذة حبيبتي، سأرمي تحت قدميه قشر موز. نعم، أنا اليوم شاعرٌ سريالي، أقرأ الجريدة بالمقلوب وأكتشف حقائق لا يعلمها أحد. لا فرق عندي بين الرياضة والسياسة والدعاية والمجتمع، كلها أصداء لنغم واحد. أما الحقيقة، فهي مجرد كعكة يتقاسمها العشرات وكل يدّعي امتلاكها كاملة. هل قلتُ أيضاً إنني أنام نهاراً وأجولُ ليلاً في الخيالات، وإن تحرير الأقفاص في حدائق الحيوان في العالم كله هو موضوع قصيدتي القادمة؟
مرةً، في طفولةٍ زرقاء، حاصرني مدرسون بالعصيّ ولم يجدوا في دفاتري سوى عبارة «لا لليقين الأعمى». ثم في طفولةٍ رمادية، جلستُ بين اثنين هما الأبيض والأسود، وهما أمي وأبي وهما البداية والنهاية، فأيقنت أنني ثالث النقيضين وأنني اتحادهما أيضاً. أيقنتُ أنه لا يمكن أن يكتب شاعرٌ سريالي قصيدة حقيقية إلا حين يمتدحُ الفراغَ أو الصمت أو المتاهة. ولو صادف أن نطق بغير ذلك، فسنرى ذاكرته تصيرُ صفراء محنّطة، وفمه ولسانه يُطليان بذهبٍ مزيف يتفتتُ سريعاً. وقد يُجلسه الرسامُ على صخرةٍ ويرسمه محواً. وقد يأسره قراصنةُ الكلام ويرمونه طُعماً لحيتان المعاني الكاذبة.
أنا شاعرةٌ سرياليةٌ قالت امرأة تسكنُ في عباءتها. لكن الأطفال القادمين من نشيد الأمل، لم يجدوا في صوتها سوى اختناق أمةٍ خائفة. جلسوا متحلقين حولها وصرخوا بصوتٍ جماعي: أين يسكنُ المعنى؟ إلى أين سيأخذنا الطريق ونحن نمشي في الدائرة؟ ومن صمتها وصمتهم وُلد مذهب اللاجدوى وصار شرطاً لمـرور الذاهبين والآتين.