صعودي إلى الطائرة كان فيه فرح المسافر الذي يزاغيه كل شيء حين يبشر برحلة ملوكية سيدق لك فيها حتى الماء، لكن حين علمت أنني الراكب الوحيد، دار رأسي غير مصدق، بقيت واقفاً مع المضيفة لكسب مزيداً من الوقت، وجالت عيناي بسرعة على المقاعد الشاغرة، وبقيت أغنية محمد عبدالوهاب «يا مسافر وحدك» تتردد في رأسي، كان وجود حزمة من الجرائد والمجلات وصينية مكسرات، وزجاجات ماء من التي لا نجدها في الجمعيات، ساعدني على اتخاذ القرار، جلست.. وأول شيء كنت أريد أن أطلبه بصراحة «غرشة كولا» باردة، فقلت: عيب، ودّر عنك طبعك الطفولي، وشغل الحارة القديمة، أنت الآن في مقام رجال الأعمال، وتصرّف دائماً بطريقة الشبع والارتواء وعدم الحاجة لأي شيء، فقلت للمضيفة، مبتسماً بجفاف: ممكن ماء فاتر، بدرجة حرارة الغرفة من فضلك!
تزعمت ذلك الماء الفاتر على أساس أني دائماً ما أتبع حمية غذائية كعادة الأثرياء، ولا أحب أن أخبّص في الأكل، ثم عليّ دائماً المحافظة على سلامة الشُعب الهوائية، وهذا أمر ضروري، بدأت أتصفح الصحف الإنجليزية، على أساس اللغة، والتعليم في الخارج منذ الصغر، ومتابعة «داو جونز».
ما يميز الطائرات الخاصة، أنك لن تسمع تلك الأسطوانة المكررة لاتباع إجراءات السلامة، والتي عادة لا ينصت لها المسافرون، ويشكّون كثيراً في قدرتها على إنقاذهم ساعة الخطر، والمضيفون يقومون بها أمامهم بفتور واضح، كان عرضاً موجزاً من قبل «الكابتن» عن الارتفاع، والمسافة، والسرعة بالأميال التي لا أفقه فيها شيئاً، لكنها حظيت بهزات من رأسي مراراً، حلقت بي الطائرة لأول مرة في حياتي وحيداً، لدرجة شعرت فيها بالوحشة، وطرقت مسامعي أغنية «يا مسافر وحدك» مرة ثانية، بنغمة مقام النهاوند، والتي يمكن أن تجرك إلى قرى اليونان الجبلية التي تطل بعين الرضا على البحر الأبيض المتوسط، لكن المضيفة الرشيقة، والتي لا تضطر لقطع أمتار كثيرة، هي كراسي معدودة، ومذهبة، وغير جالبة للملل، والخدمة الراقية واضحة، خلقت جواً من الألفة بحيث شعرت كأنها مسافرة معي، وثمة عشاء سيجمع مساءنا الجميل وموسيقى فيها من البوح وما يمكن أن يجعل الليل فرحاً.
أسفت كثيراً حين أبصرت قائمة الطعام، وتمنيت لو أنني لم أتريق نهارها، قضيت الساعات بين تصفح مجلات لا تعني لي شيئاً، خاصة باليخوت، ومقابلة شاشة الكمبيوتر، موحياً للآخر أنني أراجع دراسات جدوى ورسوم بيانية، كانت المضيفة مهتمة، وتسأل كل ربع ساعة، كنت أبادلها الحديث مع قهوة «اسبريسو، سنكل شات»، وأحكي لها عن شغفي بمدن العالم، مع احتساء ماء غازي، تعافه النفس، لكنه ضروري الآن في هذه الطائرة الخاصة، تحدثنا عن خطوط الموضة في خريف وشتاء هذا العام مع حبتين شوكولا سويسرية، وإذا بالساعات تنقضي سريعاً، وكأنك لم تركب طائرة، في الأسفار العادية يسدنا تعب المطارات فقط، وعتل شنط الحجاج الممتلئة، حلّت الطائرة في مطار نابولي، ونزلت بذلك الطقم الأبيض الرياضي الإيطالي، والذي تبدو علامته التجارية واضحة للعيان، بحيث أن أول من سيستقبلك، سيقول: هم.. دائماً هكذا الأغنياء لا يرتدون إلا الأشياء المريحة، والمميزة، ذات الوبر القطني طويل التيلة، والذي لا يحك الجلد، بحيث لو لبسها فقير فسيخرب شكلها، وسينفش القطن مثل شوك «دعَلَيّ»، نزلت وقلت لن أتلفت يمنة أو يسرة، وكأني مثل ذلك الشاب قبل عشرين سنة حين نزل مطار «ليوناردو دافنشي» في روما وحده، ولا يعرف أحداً، وظل مثل مهاجر سيقبض عليه في الحال بأي تهمة تخص الأوراق، كانت نظرة للأمام، ومليئة بالثقة التي يمكن أن يهزها أي خطأ، لكن فوج من النساء العاملات في المطار، كان في استقبالي، بحيث خفت على جواز سفري من الضياع بين أيديهن، حفّت بي المستقبلات، وأنا أتعمد الحديث معهن بهدوء، وبنبرة واضحة، ذات طابع مسرحي، في حين كانت أذناي تلتقطان ما يقوله بعض المسافرين العابرين والعاملين الذين رأوني أنزل وحدي من الطائرة، بعضهم شك أني مهرب عتيد أو لي بتجارة السلاح، بعضهم أعتقد أنني آتٍ لنابولي ليومين لخوض مباراة غولف فقط، وكان هذا الأرجح عند الكثيرين منهم!