حين استيقظت صباحاً بعد حزني على من دمرتهم الزلازل، خرجت أتجول في شارع المرقاب. كان صباحاً صامتاً، لا وقع أقدام خلف السور، ولا لغط أطفال وراء جدران البيوت. كل من يسكن في «المرقاب» يسكن!
فتذكرت بائع الصحف الهندي الذي كان في الصباح الباكر يجول بدراجته الهوائية، قبل أن يتمركز في موقعه عند الدوار فارداً بضاعته، رابطاً أطراف منديله حول رأسه اتقاء لهب الشمس. يجول بين البيوت موصلاً الصحف إلى طالبيها في خرجين يتدليان على جانبي الدراجة. تماماً كأن جواد البقال يجول بين البيوت في زمن كان كل شيء فيه أخضر وطفولياً. يخط بائع الصحف الهندي الطرقات الترابية ويهندس التواءاتها، حيث التراب بكثافته يكتم الخطوات المتلصصة كي لا يوقظ الساكنين في المرقاب. لحظتها تذكرت حديثي مع أمي (رحمها الله) حين سألتها: كيف حدث أن سكنا في المرقاب يا أمي؟ والمرقاب لا قرية ولا مدينة. مرقاب ترابي، يخط الناس طرقاته الترابية بالماء وعجلات السيارات. فتضحك الشمس من الماء ووهم النساء حين يجدن التراب قد جف بعد ساعات، والماء شربته جذور الأشجار الصحراوية. رمال المرقاب عصية، تنهض من رطوبتها وتتمرد على سطوة الماء. ورغم تحذيرات الترشيد تصر النساء على تشذيب الطرقات وتطويع الرمال كي تصير مسالمة، وأقدام الأطفال نظيفة والمرقاب مهندساً. فحيث توجد النساء ثمة حياة ولغط أطفال وسمات حضارة. فيا لمجد النساء حين يهندسن الوجود. فقلت لأمي: لكن المرقاب ليس مدينة يا أمي، فلا أسفلت يخط الطرقات بين البيوت ولا ضجة أسواق ولا لغط مارة. وهو ليس قرية فلا مزارع، ولا مزارعون يراقبون السماء بأبصارهم بحثاً عن وعد الهطول المرتقب. ولا رائحة الخصب تنبعث من الصلصال. كما أنه لا يشبه حي، فالحي يعرف أطرافه الأحياء. والحي يلتقي فيه الناس في الدكاكين والطرقات والمقاهي. والحارة يعرف الناس فيها بعضهم بعضا ويتبادلون المنافع الصغيرة والقهوة والأسرار. فأسرار البيوت في المرقاب تعرفها الخادمات ويتناقلنها عند أطراف البيوت. فلماذا سمي هذا المكان بالمرقاب يا أمي؟- قالت:«لا ادري يا ابنتي، لكننا نعرف ان اسمه المرقاب من استوت الدنيا».
- قلت: ومتى استوت الدنيا يا أمي؟ ضحكت:لا اعرف لكننا عندما (ولدونا شفنا الدنيا مستوية، والمرقاب موجود وكنا نحضر الماء للشرب من أباره). صمتُ وفكرتُ: لعل اسم المرقاب من (رقب يرقب، مراقبة) فهو على بعد امتار من البحر. والبحر في زمن مضى كان منفذاً للصوص البحار. ومرقاباً لرصد الغزاة وسفن اللآلئ.