للحنين الدور الأول والرئيسي في إشغال الذاكرة، والاستمرار في وهج التذكر واسترجاع الماضي الجميل. وهو هدف علينا الاشتغال عليه بشكل ممنهج، تفادياً لتداعيات كثيرة تسببها الحياة العصرية السريعة التي لا تأمل فيها ولا مساحة للسكون. وإشعال الحنين أمر غير ممكن بالمعطيات الطبيعية، فلابد من محفز خارجي لإعماله، كأن تسمح لذهنك بالتأمل إذا مرَّ أمامك مشهد يستدعي ذكريات ماضية، في تلك اللحظة حاول التشبث بالصورة دون فقدان الاستمتاع، أو أن تصلك رائحة تذكرك بأشخاص اقتربت منهم جداً ولكنهم رحلوا أو تقرأ جملة تذكرك بحالة عشتها وتعرفها جيداً وتدرك معناها بأكثر مما حاول كاتبها التعبير عنها، أو ترى صديقاً عاد بعد غيبة طويلة ليذكرك بمرحلة جميلة من عمرك مرت عليها مراحل.
أفكر دوماً بعد استنهاض حالة الحنين هذه وما تصنعه من توهج داخلي، إلى أي مدى يمكنني صنعها بنفسي من دون تركها لصدف الطريق.. ومِنح القدر؟ بمعنى أن أحولها لحالة طوعية من دون وجوب حضور المؤثر الخارجي؟ كأن أتمكن مثلاً من اصطياد ذكريات بعينها من ذاكرتي المخزونة واستدعائها عند الضرورة في أوقات الانطفاء؟ أو على سبيل المثال حصرها في كتابة مطولة واسترجاعها باستمرار كالأذكار؟ كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟ وهل إنْ نجحت سيحدث ذلك التوهج المطلوب؟! ولأني لا أملك إجابة، يبقى المخرج الوحيد هو المحاولة المتأنية في البحث عن المحفزات الخارجية والتأمل فيها طويلاً لاستدعاء الذكريات من الماضي، والاستئناس بها من وقت لآخر، كإحدى أدوات استجلاب السعادة!
وللسعادة خلطات خاصة ومعقدة، مليئة بالمشاهد البسيطة والتفاصيل الصغيرة، فإن تحققت تلك الخلطات هدأت النفس وسكنت الروح وشمخت الضحكة بقناعة من ملك كل شيء. ولا أكثر بساطة وأكثر جمالاً من تلك المشاهد التي تأتي من خلف الذاكرة، من ليالٍ كان فيها سقف منزلنا يقطر ماء في شتاء ماطر قرر ألا يأتي بهدوء، وأرجل صغيرة تركض ضاحكة مسرعة لترص الأواني لجمع الماء، ومن صور لنهارات صيفية تعطل فيها التكييف فتلتهب بعرقنا، ورغم ذلك نتلذذ بطعم الشاي بالحليب عصراً، ومن التطلع إلى ملابسنا المدرسية المرصوصة بعناية تنتظر بشغف شمس اليوم الجديد لنزهو بها وكأن الحياة ستولد معها، ومن استرجاع ذكريات المرات الأولى والنجاحات الأولى وحتى الانكسارات الأولى! لو أمكنني ذلك، لجمعت كل هذا بأدق تفاصيله في كيس كبير، واتكأت عليه سعيدة في الباقي من أيام عمري.