عندما قرأت خبر احتفاء الإمارات المبدعة دوماً، وتخصيصها شهر مارس من كل عام ليكون (شهر القراءة الوطني)، الذي شكل منذ انطلاقته خطوة فارقة على صعيد إثراء البناء المعرفي للمجتمع، وتعزيز مكانة الدولة كوجهة ثقافية وفكرية على المستويين الإقليمي والعالمي، شبَّتْ روحي بالفرح والفخر بقادتنا ومسؤولينا الذين جعلوا من القراءة والكتاب دستوراً ومرشداً لاحتياجات الإنسان، وإدراك حقه الشرعي والطبيعي في مجالات الحياة. ففي هذا العصر الذي تطورت فيه العلوم والمعارف الإنسانية بهذا الشكل المذهل، تصبح القراءة شرطاً معرفياً وحضارياً، فمن دونها لا يتمكن الإنسان من تغيير واقعه الراهن إلى واقع أكثر نهوضاً وتطوراً وتقدماً. فكل من ينتمي إلى هذا العصر بتطوره العلمي الهائل وتعدد معارفه، يدرك أن القراءة ضرورة قصوى لاستكمال المفهوم المتطور للإنسان المعاصر. فالحاجة للقراءة وضرورتها لا تكمن في كونها تضيف معارف متجددة على الدوام للإنسان، بل إن القراءة تنهض بطاقة العقل البشري ونشاطه وتنقله من خانة الجاهل إلى خانة العارف كنتيجة اعتيادية لمن يقرأ. وهي بذلك تشبه التمارين الرياضية التي تصح البدن، وتقوي العضل، وتضبط الوظائف الفسيولوجية للجسم. وهي تشبه الغذاء الصحي الذي يقوي المناعة ضد الأمراض التي تتوافر أسبابها في الطبيعة. وإذا اتفق العلماء على أن كلاً من الرياضة والغذاء يسهمان في الحفاظ على الصحة الجسدية والنفسية للإنسان، فإن اكتساب المعرفة بوساطة القراءة يمنح الصحة النفسية مناعة ضد الاختلال الذي يطرأ على الشخصية، نتيجة ما قد يتعرض له الفرد من اضطراب في الظروف الخاصة. وإذا كانت القراءة تنهض بنشاط العقل العارف والمدرك، وتطلق طاقته الكامنة من أسر الرتابة التي تولد الإحساس بالسأم والملل والكآبة، فإنها تعمل في الخفاء على إيقاظ الحماس والطموح والخيال والإبداع والمبادرة، والابتكار وتطوير ذاته وواقعه. والقراءة، بوصفها قيمة إنسانية مبدعة، تمنح الشخصية أسباب قوتها ووهجها وحضورها ونضج منظورها للحياة والأحداث. إن الفهم العميق للحياة وإدراك تحولاتها، ومعرفة أسباب ظواهر الكون والوجود والنفس البشرية، وتحولات الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في أي مجتمع، لا يمكن أن يتم إلا بالقراءة الدائمة المنظمة. والقراءة في الكتاب حالة عليا من التوحد بالنفس، تجعل المعرفة تذهب عميقاً إلى العقل الباطن، لتجد طريقها إلى السلوك والموقف من الحياة والأحداث. وتمنح الإنسان تطوراً وارتقاءً في شخصيته. وتمنحه صفة العارف وسلوك المستنير. هذا هو السر العظيم للقراءة الذي يرسم الحد الفاصل بين بدائية الإنسان وتحضره المستمر!