ذهبت إلى البحر بقصد الحدق، فوضعت الييم في الميدار وألقيته في البحر، وما هي إلا ثوانٍ حتى نشبت في ذلك الخطاف سمكة لم تقاوم جوعها كثيراً، وساعدتها الأمواج على السباحة مع التيار باتجاهي، وكنت أجذب الخيط بكل ثقة بأنه لا يحمل لي سوى الثقل. وفي صدمة صادمة وجدت سمكة الخن «تلبط» وتتلوى بحثاً عن أجواء تغمرها المياه والهواء المذاب فيه لتكمل حياتها، لذا أسرعت لفك الخطاف من فمها وأعدتها إلى البحر، الذي سبحت فيه باتجاه شبيهاتها، وفي لمح البصر ما عدت أميزها من بين سائر المجموعة لأنها ذابت بينها، وكأن تجربتها معي ليست سوى كابوس أو «حوبة» لما لم تطبقه من توجيهاتٍ تُسند صراع البقاء.
 عدت فوضعت ذيل سمكة صغيرة في ذلك الخطاف وألقيت به في البحر مجدداً، لحظات ورن هاتفي وفي اللحظة نفسها اهتز خيط السمك فاخترت الرد على الهاتف ثم أغلقته سريعاً، لذلك سميت مثل هذه المواقف باللحظات الحاسمة، جذبت الخيط فإذا بهامورٍ يتراقص في آخره.. قلت لنفسي: «غايته».. ولم أستعجل تحريره فقد سمعت أهلنا في الشندغة يقولون إن الهامور ما يموت براحة، فهو «يلبط في البطن»، وإن الهامور يقول لأمه: «لا تبكي علي إلا عندما ترين عظامي على الصنية»، وأكملت سير الذكريات، فقد سمعت والدي -رحمه الله - يحكي لنا ذات مرة أن أحد البحارة قام بشواء الهامور على ظهر السفينة حتى أصبح ناضجاً من طرفٍ واحد، وعندما هَم بقلبه حتى يطبخ الجزء الآخر قفز الهامور في البحر وسار يسبح بزعانفه التي لم يطلها لهيب النار في الموقد، فسار الهامور يسبح حتى اختفى في البحر».. هي لحظات بسيطة من التفكير ولكنها زمنٌ طويل لمن يبحث عن الحياة.
عدت إلى أرض الواقع وحررت الهامور من شركي، فسار يسبح بكل ثقة معززاً ما تناقلته الأجيال المتعاقبة عنه من سمعة وصيت مستدام.
تأملت ما حولي من جمال وطني الذي يحتويني، وأرضي التي أفدي كل شبرٍ بها، وقيادتي الرشيدة التي تحلو بها الحياة، وعائلتي التي أموت من أجلها. فقلت في خاطري: «صدقهم الأوليين عندما قالوا: إن «الغوص بو سبعة أرزاق»، والغوص هنا ليس فقط لجلب اللؤلؤ، ولكنه البعد عن الضحالة في التفكير، وضرورة ربط عناصر الهوية الوطنية التي تعبر عن ارتباطنا المصيري بالبحر، الذي ألهمنا وأسهم في بقائنا أحياء وسعداء بعيدين عن الطاقة السلبية، وكأن البحر يقول لنا: «أزهلوا مشاكلكم».
للعارفين أقول، عندما بحثت في لسان العرب عن كلمة زهل، وجدت شرحها كالتالي: «الزَّهْلُ التَّبَاعُدُ مِنَ الشَّرِّ، وَالزَّاهِلُ الْمُطْمَئِنُّ الْقَلْبِ».