الجلوسُ إلى الكتاب في شهر مارس في الإمارات، يختلف عنه في بقية الشهور. ذلك لأن فعل القراءة في هذا الشهر بالذات أصبح بمثابة واجب وطني تتحلى به المؤسسات وتنشطُ فيه كافة الجهات لشحذ الهمم من أجل صياغة حراك ثقافي معرفي يمتد من فعاليات القراءة للطفل وصولاً إلى استضافة كبار المفكرين والكتاب والروائيين والشعراء في جلسات مفتوحة وحوارات دافئة تعرّف بعوالم الإبداع اللغوي في الكتابة. وفي هذا الشهر أيضاً تنشطُ المكتبات ودور النشر المحلية في ابتكار مناشط مخصصة لتعزيز القراءة كممارسة دائمة وعادة حميدة في حياتنا اليومية.
تؤصل القراءة لمعاني الارتقاء بالنفس كونها تغذي الروح والعقل والوجدان والخيال. وعلى مدى تاريخ البشر، ظلت القراءة هي الحافظ والمكوّن الجوهري لتطور العلوم، ولكنها اليوم أصبحت سلاحاً قومياً وسبباً لارتقاء الأمم وتفوقها وتحضّر شعوبها. دولة صغيرة المساحة مثل اليابان مثلاً، استطاعت أن تُبهر العالم بتفوقها في الصناعة والتكنولوجيا وفن العمل والإبداع. وعندما نبحث عن سرّ هذا التفوق، فإنه بالتأكيد يكمن في القراءة منذ الصغر وفي أنظمة التعليم والمناهج التي تؤصل في نفوس الأجيال الرغبة في تحدي المستحيل وعدم الركون إلى اليأس وضرورة استيعاب الآخرين وحب العمل الجماعي وغير ذلك. ونحن، عربياً على الأقل، نمتلك هذا الإنتاج المعرفي الهائل في الرواية والشعر والفلسفة وحب الحياة. ولكن ضعف مداخل القراءة وعدم حضورها كعادة يومية بين الناس، ربما جعل هذه المعارف والإنتاجات الأدبية، تصلُ إلى النخب فقط من غير أن يمتد تأثيرها إلى العموم.
ما فعلته الإمارات أنها رمت بحجر الفلسفة في المياه الراكدة، وبدأنا على مدار السنوات الماضية في رؤية دوائر الاهتمام بالقراءة تتسع شيئاً فشيئاً. والأجمل أن الناس أصبحت تعي عمق هذه الممارسة ونشأت لدينا صالونات أدبية تناقش أحدث الإصدارات وتروّج لها. وكل ذلك يصب في مساعي التنوير الثقافي، حيث يقف الجمال الفكري والأدبي في مواجهة أفكار التطرف والغلوّ. وبالتالي، تسهم القراءة في جعل المجتمعات منفتحة على الفكر النيّر، وعلى تبني قيم التعايش والسلام واحترام الآخرين باعتبارها ركائز يتأسس عليها المجتمع المتحضّر القادر على استيعاب مختلف الرؤى الثقافية للشعوب تحت مظلة احترام العقل والفكر.
هكذا أصبحت القراءة في شهر مارس في الإمارات المفتاح السنوي لوضع خطط القراءة عند كثيرين، يأتون حاملين رزم الكتب المطلوبة للتصفح والاطلاع والاكتشاف، وبهم تدور عجلة التحضر والرقي.