يا لبذخ التوحد في حرير الهدوء. ها أنت وحدك. ليس حولك إلاّك. ليس معك غير نفسك تستريح إليك. غير روحك تستأنس بك. في التوحد بالنفس، تتفتح الحواس كلها. البصر والبصيرة. يتحد المرئي واللامرئي في اللحظة ذاتها. السمع والإنصات.. تستيقظ رهافة الأصابع من بلادة المألوف، تصير عيناً ترى وأذناً تسمع. حاسة الشّم تسري حتى مروج الحلم. يقتحمك الوجود كله. الكائنات والكون. هسهسة العشب وطقطقة الغصون إذ تنحني للمهبّ. دقات الزمن تسير برتابة الأيام وسرعة النهايات. صدى بكاء طفل منسي في البعيد يوقظ الحزن. لغط أقاويل في المدى المجهول يتلاشى بطيئاً. البحر البعيد.. البعيد في شجوه الأبدي. وجوه اتشحت بالنسيان وأوغلت في الغياب، تنهض من لجة الذاكرة. مدنٌ، محطات، طرقات، زوايا وحجرات. تسيرين متئدة وحدك، ووحدك وددت لو تهتِ، لو أضعت الطريق إلى البيت الذي ليس بيتك ولم يكن لك فيه خيط وإبرة، لماذا تسوقك خطى غامضة إليه؟ تهدفين الضياع كطفلة تاهت في الزحام والضجيج، فانفلتت شاردة في طرقات تجهل خطواتها، وضلت السبل إلى الذراعين.
آه.. كم كبرتِ على الضلال، حين اهتديت إليك. فيا لفيض الوحدة وترف الأنس بالنفس. لكأن وقع خطاك على الأرض نهنهة البراعم إذ تنهض في الخصب. لكأنها اختيال الغيم يسبح متئداً في جلال الضياء. لكأنها الخرير الخفي في حنين الينابيع. أي ماسٍ يبرق في تنفس الهدوء؟ أي نهوض يتأهب، وخيال يشبُّ. أي سعة تمتد أمام البصيرة نحو المطلق واللانهائي. أي ميزان رهيف يزن البشر بالعدل: كل البشر واحد، وكل واحد هو البشر كلهم.
للكائنات نشيد عزلتها في تجلي الوجود. للماء في الأنهار، للأحياء في عمق المحيطات، للرياح في الجهات، للشجر في الفصول، للبحر في الأمواج. للتراب في تعاقب الليل والنهار. للجبال في القمم، للطيور في الهجرات، للحيتان في البحار، وللإنسان في رهبة الحب! 
حين تسكنين إليك وتسكنين وحدك.. المكان أجمل ما يكون المكان، الضوء أبهى، والظلال ندى. الأشياء صديقة، والجدران رأفة الرحم. الأبواب رحمة والنوافذ أجنحة. وأنتِ وحدك لا أحد يأخذك منك. لا نجي لك سواك. لا رفقة سوى خفق القلب وبهاء الروح. هل تستشعرين الوحشة وأنت وحدك؟ إذن لست وحدك. أنت مسكونة بغيرك. وغيرك إذ يغيب غبتِ، وإذ لم يحادثك صممت. وإذ لم ينادك طرشت. فهل تخافين التوحد بنفسك يا ابنة أم كنت نفسها وتنفسها؟ ألم تتكوّري من عدم في رحمها الرحيم، وحين خرجت للتيه خرجت وحدك؟ ألأنك ولدت وحدك وتموتين وحدك، تخشين التوحد في الطريق بين المسارين؟!