عندما وقف ذلك الفتى -الذي لم ينهِ عقده الثاني بعد- يتصفح حائراً كتاب «أبي الذي أكره»، لم أتردد للحظة في أن أقوم بدور بائع الكتب بل وربما صاحب الكتاب نفسه في الحديث عن المحتوى ومغزاه النفسي أولاً والتربوي ثانياً. استمع الشاب الصغير بكل صبر حتى توقفت عن الشرح، ثم قال بخجل: أود أن أهديه لصديقي لأنه يكره والده، هل تعتقدين أن هذا الكتاب يصلح له! لا أعلم لماذا جفلت للحظة، فقد بدا جلياً من سؤاله وتردده أنه يود الكتاب لنفسه! وقتها تذكرت ما ورد في ثنايا الكتاب عن دور التصريح عن هذا المكبوت في النفس والتعبير عن هواجسها، وأن تكون في باطنك كما تبدو في ظاهرك مجازفاً في ذلك بالتعرض للنقد أو الشفقة وحماقات التصنيف والأحكام وترّهات الناصحين في التشافي من هذا الألم.
في الكتاب مناطق جميلة جداً، ورغم بساطته إلا أن فيه من العمق ما يؤلم، لا لكونه يعرض وجع كبار لاحقهم جرح الطفولة، وإنما للصدمات التي تحتويها الاعترافات والتي فيها مواجهة النفس ولمس الجرح، ليس لمسه فقط، بل الضغط عليه وإعلاء الصرخة التي يكمن فيها التشافي. الطفولة مرحلة حساسة جداً، بل مفرطة في حساسيتها، لدرجة أنها قد تعلق أمام أمور غير مرئية، فيتعطل النمو عندها، لتكتشف أن هناك شيئاً لا يتجاوز نفسه، يبقى كما هو رغم امتداد الجسد وتغيره وكثرة التجارب والخبرات. وهنا مربط الفرس، فكل شيء تعتقد أنه كبر فيك سيدور حول نقطة التعطل تلك لا يبرحها.
في الكتاب، تظهر شهادات لأناس لم يتجاوزوا تلك العقبات التي تسبب فيها ذووهم، ويحيل كل ما هو غير سوي في السلوك إلى نقطة عالقة في الطفولة، سواء كانت عنفاً أو قلقاً أو توتراً أو رهبة من الجنس الآخر أو سعياً للمثالية، إلى بذر زرعت في النشأة والتربية. وهنا يخبرنا الكاتب بطرق عدة، أن هذه البذرة غالباً لم تزرع عنوة، وإنما في غفلة أو جهل من بعض الآباء. وهذا ما يجعل الكتاب فرصة للتعافي والصفح عمن تصرف اعتقاداً منه أنه محب، ولكنه لم يعرف المعنى الحقيقي للحب. يقول عماد رشاد مؤلف هذا العمل الجميل: «يظن الآباء أنهم بصفعاتهم يؤهلوننا لعالم قاسٍ لن يربت على ظهورنا. لا يدرون أن ربتاتهم الغائبة هي ما كانت ستؤهلنا لقسوته»!