منذ متى وبعضهم لم ينطق كلمة أمي؟ ومنذ متى وبعضهم، ينطقها ولا يعرف معناها؟ هذه سيرة مشاعر، ربما تغلطها ظروف، وربما تغبشها مسألة،  وربما تعيث فيها الجفوة فساداً فتبدو في الحياة كنشارة خشب،  تحك جلد ميت.
في الطفولة،  يشع البريق من عيني الأم عندما تسمع النداء المقدس «أمي» ليهتف فؤادها لحن الخلود،  وتنشق السماء عن نجمة تخر من علوها الشاهق، لتسقط على الأرض، مبتهلة لكيان جلله الله بقدسية،  ومنحه ثلج الجنة.
وما بعد الطفولة وعندما يشتد العود،  ويصبح للأصابع مخالب،  تتسلق المشاعر جدران الصلف،  وتصعد حيث لا دمعة مرهفة تحرك وجدان من جفا،  وانكفأ، ولا صوت تشرخه اللوعة، يصحب من غط، وغلط واستغلظ،  وازداد شططاً.
اليوم بعضهم يغادر منازل الحب،  ويهبط في حضيض النسيان لأسباب،  ومبررات،  وذرائع لا تدخل إلا في عقل المجانين،  وربما يكون المجانين أكثر وعياً ممن يحملون تحت جماجمهم، كتلاً من ألياف، لا تصلح إلا لغسل الأواني المعدنية.
هكذا تلونت الحياة،  وهكذا تشكلت،  وتغيرت،  وتحولت،  وصيغت مشاهدها لتتلاءم مع طموحات الذين خرجوا من الحفل ولم تزل وجوههم في حالة تنكر، للأم، لأنها لا تستطيع النهوض، وقد أقعدها النداء، ولا صدى،  ولا صدر يعيد للقلب المكسور تجبيرة،  تحميه من العفن.
من يستطيع الوقوف أمام صرامة الزمن،  وجبروته،  وقسوة من حذوا حذوه.
من يستطيع الصمود، وضربات الزمن عاصفة،  قاصفة،  قاصمة، تخاصم من لا يستطيع خصامها،  ومن تعجزه رجفة الصوت،  ورعشة اليدين، على القول لمن يهمه الأمر، أنا أنا أمك.
الرحلة طويلة،  والعربة التي أقلت أحبة،  لم تزل تتوقف عند الرصيف في انتظار الإذن كي تعبر،  ولكن من سيأذن لمن لا يملك قدمين يحملانه إلى حيث تكمن حقيقة الحب الذي أطفأ مصابيحه،  ونام أهل المنزل تحت جنح الظلام،  يتقلبون على حصائر بلله ضباب الجفاء بلمح، ينكئ الجرح.
الله لو تسمعين أيتها الغافية تحت ركام من غفلة،  الله لو تنصتين أيتها الطافية على سطح ليس أملس ولا خشناً، ولكنه بين هذا وذاك،  يؤذي،  وآلامه توقظ أشجان الليل،  فينشق قميص الحلم من دبر.
الله كم حاول المعنى الدخول في غرفة لا فيها ضوء،  ولا ظلام،  بل يسكنها رماد العمر، وأشياء أخرى، ربما تكون من زمن البياض، ولكنها لا تصلح لليل يفضحه سواده،  كما لا يخجله أفول بياضه.
أحياناً تشعر أنك بحاجة إلى الصرخة،  وبخاصة عندما لا يسمعك أحد، فتصرخ حتى تصم صرختك أذنيك، ولا أحد يجيب، لأن التي ستجيب، فقدت السمع من زمن بعيد.
فكم هي قاسية هذه الحياة عندما تفقدك حق الأسماع،  وحق الاستماع.