حدثٌ جللٌ أن يحاصرك الهوى، وأن يشاع في النبأ بأنك طريحُ التجلي النوراني، وأن قلبك مهتوكٌ وعقلك مقلوبٌ وداء علتك هو دواؤها.
لن يسألك العشاقُ: «كيف تكتوي الروح وهي أثيرٌ محض؟» لكنهم سيفرشون رسائلهم عند عتبة قدميك، وسيوقدون الشموع لأجل أن تنحني لمعاناتهم. وسيسألونك: كيف أن النار التي تتأججُ في الوجد، تلتهم العاقلَ وتُذيب لُبّه؟ وكيف أن الرجل حين يقع في دعةِ الوداد يتأثثُ صدره بفيضٍ من كل صوب وربما شعّ دربه وتفتحت له أبواب الكشف. وربما تداعت أمامه الستائر والحُجب ليرى ألا يقين وراءها صورة سوى الضوء الذي ينعكس من قلبه.
ماذا سيحدث للصوفي إن تركناهُ في حفرة شاسعة والقمر فوقه في قوس اكتماله؟ هل ستحتشدُ الفراشات المضيئة وترفعه من قميصه إلى شاطئ النجاة؟ هل سيأتي رجالٌ كهولٌ من القرى المجاورة ويرمون له حبل التعلق بالأمل؟ ولو صادف أن قطيع فيلة كان يمر في ذلك الوادي، هل ستسقط تلك الصخور عليه؟ والصوفي أصلاً ليس صوتاً ليُسمع، وإنما مجرد رسالة كلما كتبتها يدٌ مزقتها أيادٍ مرتجفة. وكلما خطها قلمٌ ارتفعت في وجهه السيوف وطعنت بجهل ذاتَها.
لغزٌ غامقٌ هي الحرية. لغزٌ مستمر هي رقصة الصوفي. وكأنه، في لحظه الدوران، ينتمي للخلود والتغيّر ونكران الثبات. وكأن الزمن حزام خصره. وكأن الجاذبية هي ما يتساقط من قدميه. وفي رقصة الصوفي لا توجد بداية أو نهاية، بل مجرد حضور كليّ في اللحظة الزائلة، عندما يصير هو مركز ذاته المتشظية، ولا يعود شيء يعنيه سوى أن يتحد بالمطلق في نغمة الكون بعد أن كان منفلتاً في شرودها.
لا يهم لو دار الصوفي في رقصته نحو اليمين أو الشمال. ما يهم فعلاً هو أنه يصبح الرابط المادي لاتصال السماء بالأرض. وما يهم أكثر هو أنه يصبح الرابط الروحي بين نصفي الحقيقة، أي الظاهر والباطن، المتجلي والمستتر، الثابت والمتغير. ولو استمر الصوفي في الدوران إلى الأبد، فإنه يذوب في المطلق، متحرراً من أي انتماء للمسافة أو للزمن أو للمكان. وهذا بالطبع غاية مسعاه.
بشرٌ كثيرون يعيشون في دائرة الفراغ والركض العبثي بلا معنى. أما الصوفي، في رقصته الدائرية، فإنه يجعل من اللامعنى معناه. وكأنما هناك خلاص أبدي من التعلقات كلها، عندما لا يتشبث الإنسان بأي فكرة، بل يتركها تعبر من خلاله، أو يعبر هو من خلالها.