خلال سبعة أيام من السباحة في محيط معرض أبوظبي الدولي للكتاب، سبح قارب الأحلام بين وجوه كبياض الموجة، وكانت تشع بملامح البهجة وهي تسقط النظرات على دفات الكتب، وتقلب البصر بين هذا الكتاب وذاك، وأجنحة الطير ترفرف بعناوين تسر الناظرين، وكنت أنت العاشق لرائحة الورق، تتملى الوجوه وكأنك تقرأ فصول رواية ملحمية، تسرد لك تاريخ عمرك، وتتهجى أبجدية الفرح بين العبارة والمفردة، كنت أنت المدنف شغوفاً لهوفاً بيدين مرتجفتين، تمسك بالدهشة وكأنها الأنثى في ريعان الفتنة، وتقرأ ما بين التضاريس بأحلام الطفولة، بأيام العفوية، وبراءة قريتك الصغيرة، المسترخية على شاطئ هدوئها، تحسب أيام غربتك، تحسب ورعك، ولاهوتك المختبئ تحت جلباب عزلتك، يقول لك يا أيها الناسك، المتعبد في محراب كتابك الذي بيمينك، خذ هذا الكتاب، إن بين صفحاته تكمن صورة امرأة ربما تلاشت في الظلام، وربما توارت خلف الحجب، ولكنها لم تزل تقرأ لك وترتل بعض ما كنت تلقنه لها، من شعائر العشق، وشوق الأصياف الخارقة، وتشرب من رضاب الأزقة التي كانت موطنك، وكانت مخبأ الأسرار التي جللت خطواتك، في المجيء والذهاب، من وإلى البيت المهيب، قد يكون بيتك، أو بيت الجيران، فالأبواب كلها كانت مشرعة مثل قلوب أصحابها.
في المعرض رأيت في ما يرى النائم وجهاً بين الوجوه، حتى سقطت الدهشة على مقلتيك، وهويت أنت، والطرف الخفي كان يلاحقك، ويمضك بلحاظ أمضى من الصقال القواطع، وصاحبك الذي يتبع خطاك، مفتون بشيء ما، منكفٍ على شاشة هاتفه، ولا يراك، لا يغبطك على فرصتك الأخيرة في المشاهدة المدهشة، وصاعقة البوح الخفي من تحت وشاح، أو قل نقاباً، الأمر سيان، فالاختفاء يكون أكثر وضوحاً عندما يكون القلب هو عينيك، وتكون عيناك في مضغة القلب.
في معرض الكتاب تبدو الأشياء مبهرة، وناعمة، وسخية، عندما لا يسكن بجوارك ما يثير الوسواس الخناس، وعندما لا تترصدك مهج مبتلاة بالعصاب القهري، وشكوك رينيه ديكارت، هذا العبقري اللعين الذي أثار حفيظة الساكنين في قلب الجهالة، والرابضين في مخابئ البؤس التاريخي.
في معرض الكتاب الذي طوى عباءته ورحل، إلى موعد آخر، في عام جديد، نسيت كل مواقع الأجنحة، إلا شيئاً واحداً لم يفارق رأسي، وجهاً أتذكره وهو يتبعني، هو يحاذيني، ويحاكي زمناً ما كان في المهجة، مثل المقلة في محجر العين، زمن اختلط فيه الملح والسكر، وكنت أنا الناسك والشيطان، كنت في الرحلة الطويلة أسير وخطواتي تمسح رمالها الريح، ولا يبقى سوى أثر الأنفاس المتعبة، وبعض خيال يتدفق في الليل عندما تهجع الرؤوس، ولا يصحو سواي.