مشاعر ندية، عذبة، وغامضة، تلك التي تشد صديقتين إلى بعضهما بعضاً. كأنهما تنحدران من جذور واحدة. ولكنهما لا تتماثلان إلا في توق الروح إلى فضاءات لا يحدها زمان ولا مكان. مشاعر شفيفة كالحدوس الخفية تجمعهما. مائية في خصائصها، عميقة في تجذرها، تستريح في أعماقنا وتسترخي في بهو أرواحنا. في الغياب، يظل الحضور ألقاً رهيفاً كعروق الماس في نسوغ الحجر، تختزن السنين وتشع بروعتها. وحين الحضور يوشك ينهض الحنين كبرعم في بهجة الصباح. كأن الحضور صباحٌ. 
كأن الغياب مساء أليف. وحين اللقاء، النفس تدفق سلامها وطمأنينتها وتفيض بالمحبة. كأن قطرة الماء تنفلق قطرتين. والزهرة تصير زهرتين. والهواء يصير أكثر طراوة ولطفاً، لأنه مرَّ بالصديق الحميم في نفس الزمان والمكان. فكم طال بنا الغياب يا صديقتي. لم نتكاتب كأننا لم نعرف الأبجدية. لم نتهاتف، وشبكة الهواتف التي باتت تحاصرنا، كأنها أعضاء الجسد. صحراء الغياب تمددت وطال بنا قفرها. وحين اللقاء يوشك أن تشق ينابيع المحبة طبقات الزمن والمسافات، كأنها شبر واحد يفصل بين كائنين. قالت صديقتي: الزارع لا يقلق على السنديان المتجذر في غياب المطر. وما تتناسج به الروح، لا نبحث عنه، بل ما نخاف من فقده. 
قلت لها: الحقيقة التي نعرفها لا نسعى لتأكيدها، لكننا نسعى كي نعرف ما نجهل. ونحن لم نتواصل منذ زمن، فأي معنى لهذه الحقيقة؟ قالت: التواصل جميل في تجسده، ولكن الحرص عليه يشي بالخوف من فقدانه. والنسيان ليس انمحاء الذاكرة، بل إنه حالة من الرسوخ الأبدي في خلايا الروح، للزمان والمكان والأشخاص. وإذا ما تناسج الكائنان وعمق ما بينهما في الفكر والروح فإن الغياب لا يمسُّ إلا قشرة الزمن. والحضور هو النور المشع الذي نهتدي به في عتمة الأيام والغياب. قلت: كأن الكائنين إذاً كائن واحد تجسدا في شكلين متغايرين في الظاهر، متجانسين، متكاملين في الباطن الذي لا ينفصم ولا ينقسم. قالت: النطفة في الرحم تنقسم لتجسد بانقسامها حقيقة واحدة لكائن واحد متكامل الخلق. قلت: هذا فيض لا يناله إلا القليلون. وهو فيض يشدنا إلينا، إلى الأمل والبهاء والحياة في تجليها الأسمى. وحتى في التوحد الأعمق مع الذات تستيقظ الحاجة للحضور المجسد في صاحبه. فهل محبة الصداقة تشبه الأم والوطن المشتهى؟ قالت: هي الوطن الذي لا غربة فيه، ولا احتراب. قلت سنلتقي. قالت لم نفترق!