كانت تستهويني مبكراً في الأسفار زيارة قبور وشواهد المشاهير في مدنهم وقراهم مسقط رؤوسهم، بعضهم لقبره وشاهده تلك الشهرة في مماته، مثل التي حظي بها في حياته، وأتذكر في أول زيارة لي للقاهرة كان همّي الأول زيارة أشخاص تولعت بهم، لأنهم تركوا أثراً في النفس ومطرحاً في الذاكرة، فذهبت لقبر جمال عبدالناصر، وقبر عبدالحليم حافظ، وقبر فريد الأطرش، وغيرهم من الفنانين والمقرئين ممن كانوا يسكنون «البساتين»، وحين زرت دمشق بقيت أبحث عن قبور كثير من الصحابة وعظماء التاريخ، فزرت قبر بلال الحبشي وذهبت لحماة زائراً ومعتذراً لقبر خالد بن الوليد، وصلاح الدين وابن عربي، معرجاً على معرّة النعمان لإلقاء واجب التحية لمولانا فيلسوف الشعراء شاعر الفلاسفة أبي العلاء المعري.. وغيرهم من عظماء ومشاهير الماضي البعيد والقريب.
في الأسفار الكثيرة كنت أحب أن أزور تلك المدن التي تحمل في بطنها الكثير، والقرى التي ما زالت مخلصة للذين ولدوا فيها من كبار المشاهير والعظماء من كتّاب وفنانين وسياسيين ومبدعين في المعارف الإنسانية، وإن كان هناك قبور لهم في مسقط رؤوسهم، وهذا ما يحدث نادراً، لأن معظم هؤلاء المبدعين هم مغبونون في مدنهم في حياتهم، محتفى بهم بعد وفاتهم، فإن صادفت قبر واحد منهم أو منزله الأول، فإني أتوجه إليه، وألقي عليه تحية صادقة إن كان قد ترك أثراً من المشاغبة في رأسي ومعرفتي أو ترك أثراً خلدته به البشرية، في الدول الأوروبية لن تجد معضلة في ضياع وتشتت إرث مبدعيها، فكل شيء منه لديه قيمة، ويحظى بتقدير، وغالباً ما يكون مسقط رؤوسهم أماكن سياحية، ومتاحف خاصة، فمدينة صغيرة مثل «ستراتفورد» شهرتها لأن شكسبير منها، وتفاصيلها في كتاباته، اليوم يقصدها السياح من كل العالم، حيث يزيدون على خمسة ملايين سائح كل عام، تذهب إلى مدينة «سالزبورغ» في فيينا فتجد منزل الموسيقار «موزارت»، تكون في «فرانكفورت» فتلقى كل ما يخص شاعر الألمانية الكبير «غوته» في مسقط رأسه، لكن حين تعرج إلى طنجة العالية، فبالكاد يوصلك زقاق المدينة القديمة إلى قبر ابنها الرّحال «ابن بطوطة»، وحاله مزرٍ، ولا تصل إليه إلا بالصدفة أو بشق الأنفس، في حين في طنجة ثمة قبور لمبدعين مغاربة وأوروبيين مثل قبر «محمد شكري» وقبر «جان جينيه» في مدينة العرائش التي تبعد ثمانين كيلومتراً عن طنجة العالية، هكذا يعيش الكثير من العلماء والعباقرة والمبدعين من شعراء وفنانين ورسامين وموسيقيين حياة الضنك في الدنيا، ويفرّون من مدينة إلى أخرى طلباً للسكينة، وتبليغ علمهم، أو طلباً للحرية ومساحة للإبداع، وإعداد تلاميذ ومريدين من بعدهم، لأنه غالباً ما تتنكر لهم بلدانهم، ومسقط رؤوسهم في الدنيا، حيث لا كرامة لنبي في قومه، وبين ظهرانيهم، فلا يجد إلا الغُلب والغبن في الحياة، أما حين الممات فتتكالب الأمم عليه وعلى إرثه العلمي ومنجزه الأدبي والفني، وتتنازع المدن في احتضان وفاته ورفاته، وإقامة الهياكل والنصب والتماثيل له، وكل يدّعي وصلاً بليلى.. ولكم تحزنني قصة ذلك الرسام الذي يذرع شوارع مدينته، وحين يحلّ المساء الحزين، يتوسد قاعدة تمثاله لينام متعباً من جحود المدينة لجثته، بينما هي تحتفي بكل تلك الأحجار الرخامية التي كان من الممكن أن تصنع له بها حديقة كبيرة، وبيتاً صغيراً، ليشعر مرة بمعنى أن يكون لغرفة نومه سقف مضيء، ويفتح عينيه على الأخضر في الحياة، ولا يتمنى قبراً كالذي عاشه في دنياه.. وغداً نكمل.