الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

شوارع كوبا فوتوغرافيا تاريخية

شوارع كوبا فوتوغرافيا تاريخية
6 سبتمبر 2021 05:50

نوف الموسى (دبي) 

تقف المرأة الكوبية، الطاعنة في السن، بالقرب من أحد المحال القريبة من السوق في مدينة «هولغوين» في كوبا، مبتسمة للمارة، بينما يتسرب من بين شفتيها، سحابة دخان رقيقة من سيجارة كوبية، تلك التي يمكن صناعتها في مزارع مقاطعة «هولغوين» و«وادي فيناليس»، فيما يُمسك العمال بأيديهم لفافة التبغ، ويلفونها بإتقان خاص، وتعد من بين الأجود في العالم، في تلك اللفة التي يحتفظ فيها التبغ رطباً، يضع الكوبيون ثقافتهم، موسيقاهم، أحلامهم، وحتى رقصاتهم، التي مرت عبر عقود من الأزمات الإنسانية المتداخلة، إلا أنها استطاعت أن تتجذر في عمق تجربة الإنسان الكوبي، تراها متجلية في قصائد شعراء مقاطعة «ماتانزاس» الكوبية، الشهيرة بفولكلورها الأفرو-كوبي، منهم الشاعر الكوبي خوسيه جاسينتو ميلانيس، بمجرد تأمل تمثاله في حديقة الكاتدرائية، تتذكر كتابه «El Conde Alarcos»، والذي نشره بعد لقاءاته مع الناقد الأدبي وراعي الفنون ذي المساهمات المهمة في الأدب الكوبي ومجال التعليم الكاتب دومينغو ديل مونتي، من كان يتذوق الحساسية الشعرية لميلانيس، وفي إحدى قصائد خوسيه ميلانيس، يرى كونه ابن كوبا، فهو مصير لا يقاوم، ومهما فعل سيضطر لاتباع موطنه، وهو هاجس شعور الانتماء نفسه المُلاحظ في قلب عمارة الكنيسة الشهيرة في «هافانا» العاصمة الكوبية، كاتدرائية القديس كريستوفر، مشكلةً تحفة الباروك الكوبي، حيث يُقال إن «الموسيقى وضعت في أحجارها تعبيراً عن جمالها»، وهي تعيدنا إلى تأثير العمارة الباروكية في منتصف القرن 18 في كوبا، مقدمة نسخة مبسطة من الباروك الأوروبي، بأبعاده التقليدية الفخمة بالزخارف المعقدة في القصور الملكية، ورغم أثر الاستعمار في تلك التشكلات المعمارية بأبعادها الفكرية والثقافية، فإنها استطاعت أن تنغمر في مكونات الشخصية الكوبية.

بكل بساطة، يتحرك صاحب عربة الحصان في مدينة «بايامو» في كوبا، المحملة بالخضراوات والمشتريات التجارية، وأحياناً ينقل الأشخاص بين المناطق المختلفة، وترى كذلك كيف أن في مدينة «كاماغواي»، يصف الباعة اللحوم ويجهزونها، بينما ينشغل الحلاقون، بجانب سوق الخضراوات، في لحظة قص الشعر والحلاقة.

اللافت في كوبا، الحاضرة بمفرداتها في إكسبو دبي، هي الثقافة السائدة للسيارات الكلاسيكية في الشوارع الكوبية، مقدمة خدمات توصيل مختلفة، أبرزها جولات سياحية بين مختلف المدن، ولكن بمجرد الركوب فيها، يستشعر الزائر رحلة في خمسينيات القرن الماضي، وقد ينتاب الركاب الكثير من الأسئلة عن أهالي كوبا وآمالهم المستقبلية، ومن اللحظة التي تبدأ فيها السيارة في الانعطاف إلى زوايا جانبية من شوارع كوبا، ترى كيف أن الناس مشغولون بالحياة اليومية، هناك مساحات كثيرة للتواصل، لم يغزهم الهاتف الذكي بكثافة كما يحصل في العالم، لذلك قد يُجمع المصورون الفوتوغرافون في الكثير من زياراتهم إلى كوبا على أنها تمثل مدينة للفوتوغرافيا التاريخية، فالإنسان منسجم مع الحراك اللحظي للحياة، فهو جزء من رقصات السالسا الشهيرة التي تفاعلت ضمن التأثيرات المُلهمة لـ «المامبو»، فن موسيقي ذي أصول كوبية، والتي تعني بلغة الكيغانو الأفريقية «محادثة مع الآلهة» أو الصوت في المجموعة، تلك التي قد تتراقص مع نغماتها إذا ما دخلت إلى أحد المطاعم الكوبية، هناك دائماً أحد يغني، وأخر يوازيه في الرقص، ووسط ذلك كله تراهم يتحركون بشكل لا إرادي، ويجتمعون مشكلين مجموعات، من دون دعوة أو تحضير مسبق، إنها دائرة الحياة الكاملة في كوبا، لذا فإنها مشروع بصري متكامل، ويكاد يتصل بجّل جوانب الحياة من مثل جمالية سلسلة جبال «Escambray» في محمية «Topes de Collantes» بالقرب من بلدة «ترينداد» الواقعة في مقاطعة «سانكتي سبيريتوس» في وسط كوبا. في زيارة لبلدة «ترينداد» أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو منذ عام 1988، يكتشف المطلع على الأهمية التاريخية للموقع كمركز لتجارة السكر في القرنين 18 و19 في منطقة البحر الكاريبي، والتساؤل يتسع إلى التأثير الذي شكلته تجارة السكر في حياة الكوبين في تلك المرحلة، سواء على الأطعمة في المطبخ الكوبي، أو في الممارسة الفكرية والثقافية للعلاقات الدولية بين مختلف ثقافات العالم، باعتبارها أبرز الدول، بل الأهم في تصدير السكر حينها، إنها تشبه مسألة العثور على جدارية ما قبل التاريخ المرسومة على حجر أحد المرتفعات، في «valley of Dos Hermanas»، وملاحظة بيانها لأشكال الحياة بالمعنى الطبيعي والعضوي في كوبا، فنحن في أمس الحاجة لخلق تلك الحوارات المفتوحة، التي من شأنها أن تكشف لنا أنفسنا عبر الآخرين، مثلما دعا النحات الفرنسي إتيان بيروت المعروف باسم «إتيان» عبر منحوته الساحرة في تجريدها من البرونز، وفيها يتحدث شخصان لبعضهما، ويتموضع العمل في «ساحة سان فرانسيسكو دي أسيس»، في المركز التاريخي لمدينة هافانا. 

ساحات مفتوحة
تتمير كوبا، بين تفاصيل المباني والشوارع، بتلك الساحات المفتوحة، التي عادة ما يستخدمها الكوبيون في بناء لحظتهم المتفردة، من بينها «ساحة بلازا دي أرماس»، وهي تعتبر أقدم ساحة في هافانا القديمة، وسط الساحة يوجد تمثال لـ «كارلوس مانويل دي سيسبيديس»، رمز ثوري كوبي، أصدر إعلان الاستقلال الكوبي في عام 1868، وهو من بدأ حرب السنوات العشر، ممثلة أولى الحروب من ثلاث حروب استقلال كوبا، أدت ثالثها إلى نهاية الحكم الإسباني في عام 1898، واستقلال كوبا في عام 1902، بالمقابل في الجهة المغايرة للحياة في كوبا، يقف السكان المحليون في مواقع أخرى، بين مجموعة من الأكشاك، في سوق «سانتياغو دي كوبا» السحري في كوبا، باحثين عن كل يحتاجون إليه لمواصلة البحث عن السعادة والشعور بالحصانة تجاه «العين الشريرة»، منها: ماء مقدس، وكذلك زيت ذو قوى معينة، وأعشاب خاصة لتنظيف، والتغلب على العقبات، وفي فضاءات السوق تتجلى العديد من المعتقدات من ثقافات مختلفة، بحثاً عن طالبي المساعدة من القديسين والتطهير، إما بالاستحمام في عشب معين، أو الاستفادة من أثر الحيوانات. 

جدران مفتوحة
كل شيء يمارسه الكوبيون، كأنشطة ثقافية واجتماعية وحتى الرياضية، يظهر في تفاصيل الشوارع اليومية. الجدران مفتوحة على عوالم المارة في المدينة، فمثلاً سماع صوت الأطفال وهم يهتفون لأصدقائهم أثناء ممارسة لعبة الملاكمة، يصل ومسموع لكل المهتمين في السير اليومي بين طرقات كوبا، ويجدر الذكر أن ممارسة الملاكمة إحدى أبرز الألعاب الرياضية في حياة الكوبيين، ينضم لها الأطفال بأعمار مبكرة، وينظرون إلى كونها تعلمهم الانضباط، باتجاه خط طويل من البناء والتعلم وإعادة الاكتشاف، فالأخير يلتقي بعناصر الإيقاع النوعي لراقص الفلامنكو أنطونيو جاديس، من ربطه بكوبا علاقة وثيقة بالنظام الكوبي، من خلال خوض تجارب مع أعضاء فرقة الباليه الوطنية الكوبية، فقد كانت أهم إنجازاته تحويل الفلامنكو إلى فن درامي، بإضفاء الطابع الدرامي على تصميم الرقصات الخاصة به، تحتفي كوبا به، عبر منحوتة متموضعة أمام مبنى «Palacio del Conde Lombillo»، في ساحة «بلازا دي لا كاتيدرال» في هافانا القديمة. 

عفوية في الحياة اليومية
في كوبا، هناك عفوية لا تزال حاضرة في الحياة اليومية، ورغبة جامحة في الاتصال، الحوارات والأحاديث اليومية، جزء من لغة المدينة التي انعكست في أسواقها ومحالها من مثل المطعم الشهير «La Bodeguita del Medio»، وتعود معرفته السياحة إلى الشخصيات المرتبطة فيه، منهم الشاعر «بابلو نيرودا»، بالدخول إلى المكان يقرأ الزائر ارتباط التفاصيل الجوهرية لمعمار المكان بروح الكوبيين وتفاعلهم مع الكتابة والرسم على الجدران، تلك التي تراها منتشرة في مدن كوبية عديدة، وربما تأتي قوة تلك الجداريات إلى جذور المكامن الشخصية لكوبا، في كونها تتشكل من مدن ثورية، أبرزها «سانتا كلارا»، المدينة التي كان لها مشاركة بارزة في الكفاح من أجل الاستقلال في الثورة الكوبية، ومن خلال زيارة المدينة يلاحظ الزائر الاحتفاء بالقائد العسكري إرنستو تشي جيفارا، باعتباره رمزاً ثورياً ضمن الثقافة الشعبية، ورغم كل تلك المقاومة العنيفة التي عايشتها كوبا، إلا أن شاعريتها تطغى بشكل بديع، يشهده الزائر في ممشى «Malecon»، ذاك الجدار البحري الممتد على الساحل، من مصب مرفأ هافانا في هافانا القديمة، فيها احتفاء بلقاءات العشاق، وأمنيات الحالمين، وسنارة الصيادين.

 

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©