الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أوقات مملوءة باللاشيء

أوقات مملوءة باللاشيء
11 يونيو 2020 08:15

لإيزابيل الليّندي عادة الكتابة في الثامن من يناير من كل سنة، ما يجعلُ اليوم السّابع جحيماً لما يمثّله من ضغط نفسيّ، فتقضي أسابيع من اللاشيء، هي فقط تسجّل حضورها أمام شاشة الكومبيوتر، تحضر وتحضر وتحضر، إلى أن يبدأ ذلك اللاّشيء بالتّرائي، ما ستسميه لاحقاً بربة الإلهام، فعاداتك التّي تود بها أن تنجو من اللاشيء قد تصنعه لك من جديد، الأطفال مثلاً يحبّون تعبئة الكؤوس تحت الحنفيات ثم يُفرغونها، يستمرّون على هذه الحال لأوقات طويلة، وبعفويّة يقُومون بعرض الجوهر كتفكير فتيّ في اللاشيء الذّي نريدُ القضاء على وجوده ولو بتعبئة كأس أو إثبات وجوده بإفراغه من جديد، ويُعرض في متحف «no show» بزيوريخ إطارات من دون صُور وغرفٌ فارغة، إنّهم يجعلون للاشيء مكاناً مرحباً به بعد أن شوهته مفاهيمٌ، إن لم تكُن مُرتبطة بالكسل، فإنّ لها علاقة بالعُطل. أمّا المُصمّمة الكونغولية أنيفا مفويمبا فطرحت أحدث مجموعتها على ساحة افتراضيّة تمّ تركيبها على أجساد فارغة، والأمر يشبه منشر الغسيل حينما تمتلئ الفساتين والقمصان والتنانير المعلّقة عليه بالهواء، جسد اللاشيء في عالم تتساقط فيه العادات، مثلما يتساقطُ الماء على رأس طفل في حمّامه الأوّل، فهل مُمارسة اللاشيء نوع من العودة إلى الجوهر، بينما نُصبح نحن العرض accident؟ ماذا لو كان العمل هو وقت الفراغ الحقيقيّ في حياة قوامها اللاّشيء؟

شيء من اللاشيء
نعيش في عالم منضبط، تحدّه دوائر المُنبّهات وخطُوط الجداول الأسبوعيّة، عالم يعتقدُ الإنسان فيه أنّ المتعة تكمُن في تجنّب الوقوع في ممارسة اللاّشيء، ولكن أن لا نعرف ما نقُوم به لا يعني أننّا فعلاً لا نقوم بأي شيء، وأن لا نرى الأشياء الميكروسكوبية لا يعني أنّها غير موجودة، إننا فقط لا نملك المقدرة على رؤيتها أو وسيطاً لرؤيتها، واللاشيء «Nothing» من حولك، مُجرد اعتراف بالعجز أكثر منه مقدرة على تحديد شيء ما «something»، فما نكذّبُه بإدراكنا البديهيّ نحصل على ما يقابلهُ في علم الفيزياء الكموميّة، أي أنّنا نقُول بشكل ما إنّ الفضاء الفارغ طاقته مساوية للصّفر؛ بمعنى آخر لا وجوُد لجسيمات تهتزّ في مجالاتها، ولكن مبدأ عدم اليقين يُوقف تلك الإجابات اليقينيّة، بحيث يؤكدّ على أنّ الطاقة لا يُمكنها أن تساوي صفراً أبداً، ففي الفراغ الفيزيائيّ تنشأ أزواج موجبة وسالبة من المادّة والمادّة المضادّة تفني بعضها بعضاً في لحظات قصيرة للغاية، مخلفة قدراً من الطّاقة من خلال ما يسمّى بالتموّج الكموميّ Quantum fluctuation، وبهذا تبقى على الدّوام فرصة لعدم اليقين، ممّا يحظر حالة الفضاء الفارغ نهائياً، فما يسمّى بالجسيمات الافتراضيّة (virtual particles ) تحتاجُ إلى جاذبيّة تعمل على مطّ الزّمن وجعله يستطيل، تحتاج إلى قوّة تشوّه الزّمكان ليتمدّد الزمن. إنّ جوهر وجود الأشياء، إذن، هو وجود اللاشيء الخاص بها، والذّي نستطيع بعفويّة البرهنة عليه ببديهيّة كلاميّة نردّدها عند حصُولنا على أمر ما بـ«شيء من اللاشيء»، أي أننا نعترف في تردد أنّ ما أخذناه، أو ما سمح لنا اللاشيء بالحصول عليه وتحويله إلى شيء، عبارة عن شيء بسيط في كون تحكمه الفراغات أكثر من الأشياء. 

الحق في الكسل
هل فكّرنا يوماً في وجوب القيام بالشّيء الذّي لا نقوُم فيه بأي شيء، وهل «كوفيدـ 19» داء أم أنّه أظهر السّعار الذّي نعاني منه؟
فى عام 1911 انتحر «لافارج» وزوجته «لورا ماركس» بتناول سم السيانيد، مُعتبرين أنّ الوقت قد حان قبل أن يُصبحا عبئاً على الآخرين، لم يرغبا في سرقة أغلى ما يملكُه إنسان قادرٌ على الإحساس والتّفكير، ألا وهو الوقت، لافارج أحد تلامذة كارل ماركس وزوج ابنته كتب عمله «الحق في الكسل» كاعتراض صريح على شعار «الحق في العمل»، وبني فكرتهُ انطلاقاً من المُبالغة التّي تقودُ في الأخير إلى الاستغلال، إذ يرفض في عمله تلك القدسيّة الزّائفة للعمل، ومن المؤّكد أنّ لافارج لا يحتقُر العمل بقدر ما يحتقر من يجعلونه وسيلة للعبوديّة، لقد كانت فكرته أقرب لممارسة اللاّشيء من ممارسة الكسل، وفي هذا اللاّشيء ستختلطُ الذّوات بالمُصطلحات، فالنّاس الذّين أخذتهُم أعمالهم سيرونه عالة، حتّى لو قدّم لهم الرّاحة التّي انتظرُوها، الأمر لديهم لم يعد يتعلّق بالعمل، بل بالتفات نظرتهم الدونية من العاطلين إليهم، عندما تتداخل ماهيّة ممارسة الكسل بممارسة اللاّشيء، فأن يقول أحدهم عنك إنّك تُشغل نفسك على غير لو قال إنّك مشغولٌ، إشغال الذّات وانشغالها هما فعلان يلتقيان في العمل ويتفرّقان من حيث الدّافع، يشغل الإنسان نفسه معناه أنّ له وقتاً يريد تعبئته بأي شيء ليهرُب، أمّا انشغاله فيعني أنّه لا يملك الوقت الفارغ كحقّ، بل كواجب، ولهذا أصيب الكثير من الأشخاص بالذّعر وهرعوا إلى المطابخ لتحضير أطباق محكوم عليها بالفشل مسبقاً، فممارسة اللاشيء أصعب بكثير من أن يكون هنالك شيء تقوم به. 
وفي الأخير، فإن المعرفة الحقيقيّة تبدأ حينما نجدُ أسئلتنا لا أجوبتنا، ويبدأ السّؤال من فكرة التّحديق في اللاشيء، هذا المفهوم الذّي يفتحُ بالاستغراب ولا يُغلقُ إلا بمداواتنا من العادة، فما يعتبره النّاس اليوم حقاً سُلب منهم، لربّما هو حق، لكنّه أعيد إليهم، لقد عانوا منذ الأزل من اختفاء أوقات يحقّ لهم فيها ممارسة اللاشيء، دون تأنيب ضمير جمعي يُحتّم عليهم تحويل حتّى نهايات الأسبوع إلى فرص يأخذون فيها أعمالهم ليُنهوها في البيت.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©