الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«فيل جالس».. سؤال الألم الوجودي

من فيلم «فيل جالس بلا حَراك»
18 يونيو 2020 00:08

في أكتوبر 2017، بعد أن أنهى المخرج الصيني الشاب هوْ بو Hu Bo (مواليد 1988) مونتاج فيلمه الطويل الأول والأخير «فيل جالس بلا حَراك» An Elephant Sitting Still (الذي عرض في 2018) وبعد أن انتهى من تصويره مباشرة، انتحر شنقاً، وعمره 29 عاماً، لأسباب مجهولة لنا.
وبذلك فقدت السينما الصينية، مبكراً، صوتاً جديداً، وموهبةً لافتة، كان يمكن لها أن تعطي الكثير في مجال الإبداع السينمائي والروائي.
العديد من النقاد أشادوا بالفيلم، وبعضهم اعتبره تحفة فنية، كما وجّهوا الثناء إلى عظمة الفيلم ومخرجه، وتأسفوا لوفاة المخرج وانطفاء موهبة كانت تعد بالكثير لو لم تَنْحَزْ إلى الغياب/‏ الموت.

تعميم الخواء 
المخرج هنا يقدّم بياناً شخصياً يعج بالاحتجاج. كما يقدّم صورة قاتمة لمجتمع يعاني من أزمات لا تحصى.. مجتمع يغصّ  بأفراد يائسين، يتحركون في محيط منخور بالفقر والفساد وانعدام الأمان، حيث العلاقات مسمومة، والوحدة العائلية تبدو في ذروة التفكك.
وفيما تسعى كل شخصية إلى فهم العالم من حولها، تجد في كل منعطف ما يكبح ويقمع ويخذل ويقهر. ثمة شعور طاغ بالحزن، بالخوف، وبالخواء القادم من كل الاتجاهات، شاهداً على البيئة التي ينعدم فيها الحب، والتي تبتلع الشخصيات التعيسة الباحثة في يأس عن منفذ وعن خلاص. 
ضمن أجواء رمادية شاحبة، وتحت سماء كئيبة، تختبر الشخصيات مشاعر العجز والإخفاق والألم والمعاناة. شخصيات تتصارع مع السؤال الوجودي عن جدوى الحياة وهل هي جديرة بالعيش. الفيلم، الذي هو عن أفراد يخفقون وينهارون تحت الضغط الاقتصادي، عبارة عن بورتريه بارع وأخاذ للمعاناة الإنسانية. 
 
جيل بلا حصانة
الأحداث تدور في غضون يوم واحد من حياة أربعة أشخاص يجتمعون بفعل سلسلة من الأحداث المترابطة، التي تدور في بلدة صناعية كالحة، بالية، مقفرة، تقع في شمالي الصين. الفيلم يركز بؤرته على شخصيات عادية، لا أهمية استثنائية لها، ولأنها تشعر بالخذلان والخيانة والإساءة والخداع، فإنها تفتقر إلى العاطفة، الحنو.. اللحظات العاطفية، الحساسة، ذات حضور هش وسريع الزوال. وهي لا تجد لها مخرجاً أو مهرباً من واقعها الخانق، الكابح والمحبط. 
في غضون يوم واحد، أربع أرواح متمردة، مشاكسة، صعبة المراس، عنيدة، يجتمعون في مدار واحد عبر مصادفات مقنعة، وعبر الإحساس بأن المصائر مرتبطة ببعضها. دروبهم البطيئة، المتعرجة، تلتقي وتفترق، وأحياناً تتقاطع عند نقطة ما ثم تنفصل لتلتقي من جديد وتتداخل.  
المخرج يحبك معاً، على مهل وبتعمد، أربعة خيوط سردية، كل منها يتعلق بحياة وصلت إلى طريق مسدود، غير نافذ، في هذا اليوم، الذي هو ربما اليوم الأسوأ في حياتهم. إننا نتابع كل شخصية على حدة منذ استيقاظهم في الصباح الباكر، في بيوتهم ومع عائلاتهم أو معارفهم.  
إننا نلاحظ أن ما يجمع هذه الشخصيات معاً هو افتتانهم المشترك بالحكاية التي سمعوها عن فيل يوجد في سيرك ببلدة واقعة في الشمال الصيني. هذا الفيل يقضي أيامه في الجلوس ساكناً، بلا حَراك، أمام مرأى الجميع، متجاهلاً الناس، غير مبال تماماً بكل ما يحدث في العالم من حوله. لا يأكل، لا ينام. يوجد فحسب. يقال إن بعض المتفرجين يطعنون الفيل بالشوكة من أجل استثارته وتهييجه، وجعله يستجيب، غير أنه لا يكترث ولا يعبأ بحضورهم. إنه يجلس في صمت، غير منزعج أو متأثر بالعالم العدائي المحيط به.
نحن لا نرى الفيل أبداً بل نسمع عنه. هو غير حاضر مادياً لكنه ذو حضور طاغ وكثيف في أذهان الشخصيات وحواراتهم. 
ما يقال عن سكونه وصفائه ولامبالاته يغري الشخصيات لمحاولة رؤية الفيل عن قرب. هم، بطريقة أو بأخرى، يتماهون معه. هم مثله، يتعرضون للمضايقة والاضطهاد عند كل منعطف. إنه يصبح نوعاً من المحرّض الأساسي، من المنار الوجودي، والذي يجعلهم يقررون الرحيل إلى المدينة لرؤيته. المدينة تصبح نوعاً من الملاذ الميثولوجي، المحطة التي قد توفّر لهم إنقاذاً مؤقتاً من قسوة الوجود. 

احتمال الألم 
الفيلم ينتهي بقرار الشخصيات القيام بالرحلة، لكننا لا نعرف كيف ستكون الرحلة، وما هي نتيجة الرحلة. 
في اللقطة الختامية، الرائعة والأخاذة، نجد الكاميرا تصوّر من بعيد الشخصيات، المنبوذة والمهمَلة، وهي تختبر حالة حميمية من التواصل والقُرْب واللعب والضحك. لقد صار بمقدورهم أخيراً التنفس بعمق وارتياح. فيما نسمع من بعيد، ومن جوف الظلام، صوت الفيل. 
يقول الناقد بريان رافن: «هذه الرحلة غايتها تعلّم كيفية تحمّل ألم الوجود وليس تغيير العالم الذي تسبب في مثل هذا الألم. لقد أجاب الفيل عن السؤال الجوهري بشأن الحياة والذي تسعى شخصيات الفيلم إلى طرحه: كيف نجعل الألم يتوقف؟
سبب افتتان الشخصيات بحكاية الفيل أن هذا المخلوق منيع على نحو غامض، لا يتأثر بالألم من حوله. هو مجاز للعيش في عزلة، من غير اكتراث بقسوة الوجود، وبمنأى عن حماقات البشر. ربما جميع الشخصيات تتوق إلى الوصول إلى الحالة الذهنية (المتحررة من الانفعال وغير المتأثرة بما يحدث من حولها)، ولمواجهة المعضلات المستبدة في حيواتهم». 
عبر جمالية بصرية متميّزة، وأداء ذو حساسية عالية، قدّم المخرج هوْ بو عملاً ثرياً، قوياً، وعميقاً جداً، يلامس شغاف القلب ويحرّك المشاعر بعمق. إنه فيلم يستعصي على النسيان.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©