الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«أوديسا الإمارات 2020»

«أوديسا الإمارات 2020»
9 يوليو 2020 00:26

لقد شكلت فكرة سبر الفضاء واكتشاف عوالمه المجهولة والغريبة هاجساً كبيراً لدى كل البشر، وذلك منذ أن رفع الإنسان الأول رأسه إلى عنان السماء وتطلع إلى النجوم وأدرك الكواكب التي تحوم في مداراتها وفي أفلاكها، وكان كل من قمر أرضنا وكوكب المريخ أهم عالَمين نسج حوّلهما الإنسان أساطير وقصصاً متخيلة، في محاولة لتخيّل ما يمكن أن يصادفه وهو يطأ تلك «الأراضي المجهولة». أو كما يخبرنا الكاتب الأميركي ويليام بوروز «لقد خلق الإنسان ليسافر عبر الفضاء.. لم يخلق ليبقى على حالته البيولوجية الحالية، كما لم يخلق الشرغوف ليبقى شرغوفاً». وهذا ما شكل نوعاً من «الثقافة الفضائية» التي يمتزج فيها ما هو علمي بما هو متخيل وبما هو نابع من الثقافات المتعددة للبشر جمعاء.

ولم يكن الإنسان العربي -قطُّ- منعزلاً عن هذه الثقافة، إذ قبل ألف عام بدأ علماء ومفكرون عرب ومسلمون، في القيام بدراسات علمية، مُترجمين أعمالاً يونانية وسنسكريتية تخص علم الفلك إلى اللغة العربية، ليطوروا بها أبحاثهم الخاصة حول حركات الكواكب والأجرام السماوية، مُفكّرين في الكون وعوالمه البعيدة. وقد كان لأبحاثهم واكتشافاتهم الأثر البليغ على دراسات العلماء الغربيين الذين سيأتون من بعدهم. لهذا، ففكرة الاطلاع إلى الفضاء ليست بالفكرة الغريبة عن تاريخنا الحضاري. ويأتي اليوم «مسبار الأمل» الإماراتي، المهمة العلمية التاريخية الأولى من نوعها في العالم العربي لاكتشاف المريخ، ولكنه في الآن ذاته، تتويج لتاريخ ذهبي وعلمي وإعادة إحيائه من جديد من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة التي تدشن اليوم «ثقافة الفضاء» العربية الرائدة والجديدة.

الانعكاس والمرآة:
«إن العالم والفضاء يبدوان كأنهما مرآة بعضهما بعضاً» (إتالو كلفينو)، فبقدر ما يرغب الإنسان في استبار غور باطن الأرض، فهو يريد أيضاً سبر «ظلمات» الفضاء، إن الأمر سيان بالنسبة للإنسان الطامح على الدوام للجديد والمتعطش للكشف عن الغريب، أو بالأحرى إنه ساعٍ، كما يقول جورج بيريك، إلى «اكتشاف ما لم نكن رأيناه أبداً، ما لم نكن نتوقعه، ما لم نكن نتخيّله. (...) بل ليس بالضرورة حتى الغريب: سيكون ذلك بالأحرى، وعلى النقيض، المألوف المستعاد، الفضاء الودود...»، إننا -إذن- سنستعيد ونحن نغزو الفضاء «انعكاس» عالمنا، سنلج المرآة ونذرع العالم ونشقه في كل الاتجاهات. وهذا ما يعززه قول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي: «مسبار الأمل ترجمة لثقافة اللامستحيل التي كرستها دولة الإمارات منذ قيامها وتمارسها فكراً وعملاً ومسيرة». وإنه إنجاز عربي بريادة إماراتية، إنجاز يفتح صفحات جديدة لتدشين «عصر ذهبي» عربي مغاير، عصر يتسم بثقافة تتجاوز الجغرافيات المتعارف عليها، بل تتجاوز مفهوم الفضاء المفرد، إلى الفضاءات بصيغة الجمع والتعدد.

نقطة الانعطاف
يأتي، إذن، مشروع إرسال «مسبار الأمل» لاكتشاف المريخ، باعتباره نقطة انعطاف حادة في التاريخ العربي، نحو الشروع في التأسيس للثقافة الفضائية المعاصرة، ثقافة تتسم بالانفتاح على المؤهلات المحلية والاستثمار في مئات الكوادر العلمية الإماراتية والعربية الشابة العاملة في المشروع.. ما يعطي للمشروع أحقية الاستمرار والتطور، فثقافة الفضاء هي ثقافة الشباب، مدفوعة بقوة المغامرة والتطلع إلى الأعلى وإلى البعيد، ثقافة لا تعرف المستحيل، تعزل اللاممكن عن «اللا»، وتضيفها إلى «المستحيل»: «اللامستحيل»، إنها ثقافة ضد كل محال ومتجاوزة لكل الموانع. وقد استهل الأمر بدءاً مع رحلة هزاع المنصوري، أول رائد فضاء إماراتي شاب، السنة الماضية.. إنها «دماء الشباب» إذن، إكسير الحياة والفضاء، هي التي تضخها دولة الإمارات في شرايين الإنسان العربي.
لقد شكل حدث رحلة الرائد هزاع المنصوري حديث وسائل الإعلام العربية والإقليمية والعالمية، ودفع بعشرات الأقلام الصحافية والمثقفة لأن تتغنى بإنجازه؛ لما يضيفه من قيمة للعرب في عالم «الفضاءات المتعددة»، فضلاً عن ترسيخ ريادة دولة الإمارات في شتى مجالات الإبداع والتنافسية. والتي بقدر ما تجعلها في صدارة المصاف العالمية، فهي تعلي أيضاً من شأن وقيمة الإنسان العربي عامة، وتعيد له الاعتبار داخل مجال الاكتشاف والبحث العلمي وحتى الثقافي، فـ«ثقافة الفضاء» هي ثقافة متكاملة لا تمس قطاعاً دون الآخر، إذ تخترق كل المجالات وتجعلها مترابطة فيما بينها، نوعاً من الملحمة الضخمة، «أوديسا» بهذا المعنى.

أوديسا الإمارات
يحق لي، إذن، أن أسمي هذه الرحلة الإماراتية نحو الكوكب الأحمر، بـ«أوديسا الفضاء 2020»، وهو ما يجعلها مساهمة في صناعة اللوحة الفنية العالمية التي تُشكّل (بلغة الفن) الفضاء اللامتناهي، وتعيد رسم معالمه، وتكشف عن ألوانه الساحرة والخلابة، لتعيد تركيب أحاجيه، وتكتب قصصه السرية المدفونة بين الأجرام وعلى أسطح النيازك والشهب.
إن ذهابنا الآن نحو الفضاء، هو ذهاب الإنسان العربي نحو العهد الجديد، والدخول من أبوابه المشرعة، ولدولة الإمارات الفضل في ذلك، إذ إلى جانب هذه الثقافة الفضائية، فهي تعمل على التأسيس لـ«ثقافة المستقبل»، تلك المتكئة على الآلي والرقمي والروبوتي وعلى الذكاء الاصطناعي... سعياً منها إلى خدمة الإنسان وتحويل هذه الجغرافيا العربية المترامية الأطراف، إلى أرض البحث المستقبلي. فلا تستقيم ثقافة دون أخرى، إذ إن المستقبل هو مستقبل الثقافات المنفتحة، ملحمة ثقافياً بمعنى من المعاني. وهنا تأتي «الثقافة» بمعناها الأنثروبولوجي المعاصر، على أنها «سلسلة من المفارقات»، إذ إنها كونية ومتفردة، يميزها في الآن نفسه الاستقرار والتغير، تتوغل بكل تفاصيل حياتنا، ولكن دونما أن يلاحظها أحد. وللثقافة بهذا المفهوم المعاصر قوة أساسية، يكمُن الإنسان في صلبها. وهذا ما ندركه مع انفتاح دولة الإمارات على شبابها خاصة، والشباب العربي عامة، في صلب التأسيس للثقافة الجديدة، ثقافة المستقبل والفضاءات المتعددة، عبر مسبار أمل يخترق كل الأغلفة المانعة وكل الحواجز، ليقطع ملايين الكيلومترات نحو تلك العوالم التي ما فتئ الإنسان ينسج حولها ملاحمه وقصصه وأفكار مشاريعه المستقبلية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©