الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الأديان واللّاعنف

مشروع بيت العائلة الإبراهيمية بالسعديات
9 يوليو 2020 00:26

حين أطلّت دعوات اللّاعنف مع مطلع القرن الفائت، سلّطَ ثلّة من الباحثين والدارسين اهتماماً على قضية العنف والأديان، فقد كان خيار اللّاعنف موقفاً معبّراً عن خَلْفية أيديولوجية، على صلة بقضايا السلم والحرب في العالم. وكان أنصار اللّاعنف، بوجه عامّ، أقرب إلى التيارات اليسارية منه إلى التيارات اليمينية أو التوجّهات المحافِظة. صحيح، ظهرت مؤلَّفات قيّمة في فترة لاحقة في حقل الدراسات الدينيّة، تطرّقت إلى موضوع العنف والاعتقاد، باتت من ضمن المدَوّنة المعتمَدة في فهْمِ الظاهرة، مثل مؤلّفات رينيه جيرار حول «العنف والمقدّس» (1972) و«كبش الفداء» (1982) و«الأضحية» (2003)، ولكنّ نقيصة تلك المؤلّفات، أنّها لم تواكب ما شهدته الأديان من انغماس في الشأن الاجتماعي، وتناولت الموضوع من بعيد، وهو ما لا يفي بالغرض. ولم يقع التطرّق إلى موضوع الأديان والعنف، داخل السياق الاجتماعي، إلّا حين استفحلت ظاهرة التطرّف على نطاق عالميّ.

ولو عدنا إلى أصل المسألة، نلاحظ أنَّ سنوات الحربْين، وما تلاهما، قد شهدت بداية تطوّر الحركات المناهضة للعنف. ولم تحل فترة الخمسينيات، حتى برزت تيارات مسيحية سلكت مسلكاً سلميّاً، وعملت على إحياء التراث السلميّ المرتبط بالكواكيريين وتجمّعات البريثران، وهي تجمّعات مسالمة عرفت ظهورها في أعقاب «الإصلاح». أذكت رسالة البابا يوحنّا الثّالث والعشرين «السّلام في الأرض»، الصادرة سنة 1963، هذا النزوع للّاعنف، حيث أبدى رأس الكنيسة موقفاً صريحاً من نبذِ الحرب.
ولم تحل فترة السبعينيات حتى غدا عنصرا الدين والعنف من عناصر التحليل السوسيولوجي في العديد من الأبحاث. أذكت ذلك الأحداث الكبرى التي شغلت العالم، مثل اندلاع الثورة الإيرانية، وحركة سوليدارنوسك في بولونيا، ولاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، والحركات الإنجيلية في الولايات المتحدة، وأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا. فقد لاح عامل الدين واضحاً في تحشيد الناس، وفي توظيفه في الانتفاضات والحركات والانتخابات.
في هذه الأجواء حُشِرت المسيحيّة، كغيرها من الديانات، ضمن معالجة قضايا العنف. فقد مثَّلَ انخراط رجل الدين الكولومبي كاميلو تورّيس ريستريبو، سنة 1965، في صفوف «جيش التحرير الوطني» ذي التوجهات الماويّة، وإلى حين قضائه في فبراير من العام اللاحق، عنواناً لِما اعترى كنيسة أميركا اللاتينية من تحوّلات. وقفت حاضرة الفاتيكان بصرامة ضد تلك الانزياحات في مسيحية أميركا اللاتينية، من خلال حرمان رموز تيار لاهوت التحرر ومحاصرتهم.

مراجَعات وموازنات
كلّ  تلك العوامل دفعت علماء الاجتماع إلى إعادة النظر في المقولات الدينية، أو لِنقل في الموروث الدينيّ وحمولاته السلمية وغير السلمية. من خلال مراجَعات وموازنات لمفاهيم الحرب والجهاد، والحرب المقدّسة، والحرب المشروعة، والحرب العادلة. ولم تكتف السوسيولوجيا بمراجعة ميكانيزمات العنف في المجتمعات، بل توجّهت أيضاً إلى تحليل البنى العَقَديّة التي تقوم عليها الأديان. وما من شكّ أنّ فكرة الأديان قد تمّ  الزج بها في العنف، بطريقة أو بأخرى، من خلال استدراج بعض معتنقيها إلى اقتراف العنف، أو من خلال اصطناع تأويليات مجحفة تضفي شرعية على العنف الثوري. وقد كانت الصورة الذهنية للمجتمعات المسلمة، في العقود الأخيرة، من أكثر الخاسرين لملْمَحِها المسالم بفعل انتشار تيّارات العنف الفوضويّ.  
الواقع، أنّ العنفَ واللاعنف ليسا من الخاصيات الجوهرية في الأديان، بل إنّ كليهما يمثّل نهجاً يتطوّر ويتراجع، بحسب تمثّلات المؤمنين لروح الدين. ومن هذا الباب، لا وجود لأديان عنيفة وأخرى مسالمة، كما قد يتصوّر البعض، وإنما هناك تحوّل داخليّ مشروط بظروف اجتماعية. فلو تأملّنا، على سبيل المثال، رحلةَ المسيحية مع العنف واللاعنف، نرى تصاعداً وتنازلاً بحسب الأوضاع التاريخية. فقد شهد القرنان الثاني والثالث بعد الميلاد جدلاً بين آباء الكنيسة بشأن الانضمام إلى مؤسّسة الجيش الروماني من عدمه، لِما يفرضه ذلك من اقتراف للعنف، وساد إبّان تلك الحقبة، شبه إجماع على الوفاء للآيات الإنجيلية «رُدَّ سيفكَ إلى غمدهِ! فإنّ الذين يلجَأون إلى السّيف، بالسّيفِ يَهلِكون» (متّى26: 52). ثم تراجع ذلك الانتصار للسّلم مع القرون الوسطى لتشهد المسيحية لَهْوَتَةً للعنف، بلغتْ أعلى تمثّلاتها في «الرهْبَنة المسلَّحة» إبان الحروب الصليبية، ثم هفَتَ هذا النزوع للعنف في الفترة المعاصرة، بشكل بارز، في الخطاب الكَنَسيّ. ينطبق هذا التوصيف المقتضب لتطوّرات العنف على الأديان الأخرى أيضاً.
وفي الحقبة الراهنة، وضَعت العولمةُ الأديانَ أمام اختبارات حاسمة، جرّاء التقارب والتداخل والتشارك الحاصل بينها. فعالَم الأديان، اليوم، ما عاد ذلك العالَم الذي يفكِّر فيه كلّ دين على حدة، بل ذلك العالم الذي يفرض تشاركاً في التفكير لدرء المفاسد وجلب المصالح. وهو ما دفع قادة الأديان إلى التنبّه إلى مخاطر العنف بين العائلة البشرية، ما دفع إلى تطوير خطاب الاحتضان المتبادل، وأَلْهمَ العديد من المبادرات على غرار «صلاة أسّيزي» من أجل السلام خلال العام 1986، ونداء «الأخوّة الإنسانية» في أبوظبي (2019)، التي جمعت رأسيْ القيادة الروحية في العالمين الإسلامي والمسيحي؛ بحثاً عن إيجاد إيلاف كونيّ.
 يبقى سؤال مهمّ يواجه دعاة اللّاعنف في الأديان وهو: كيف السبيل إلى بناء إيلاف جامع بينها؟ ففي العنف ضياع قِيم الأديان، وفي اللاعنف تطور لتلك القيم وازدهارها، ومن هنا، ليس اللاعنف خيار فاتري النفوس، أو ضعاف الإرادات، بل هو خيار العظماء.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©