الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الشعر في مواجهة الكوارث

الشعر في مواجهة الكوارث
16 يوليو 2020 00:09

يؤكد الشعر، على مر العصور، حضوره المشرق في مواجهة الأحداث الخطرة والكوارث الداهمة. وليس للفن دور في علاج أي عارض طارئ، إنما هو رحيق جمالي، وعزاء روحي، وشاهد صدق على هواجس الكاتب وخلجاته الوجدانية. ولعلنا، هنا، نتذكر لوحة غورنيكا لبيكاسو، فهي لا تقوى على اعتراض الطائرة المساندة لقوات فرانكو، وليس لها أن تداوي جراح ضحاياه. لكنها بقيت شاهداً صارخاً ضد الظلم والعدوان.

وفي موسوعة «تاريخ العرب قبل الإسلام» للدكتور جواد علي، نطالع العديد من الأخبار والشواهد الشعرية التي تعبر عن [أيام العرب] بكل ما احتفت به من مواسم وحروب وانتكاسات، وكان الشعر دائماً أنشودة الكرم والفروسية ونجدة المستغيثين، كما كان قيثارة لأفراح الديار وأهزوجة لحماة الظعائن. ويظل للكتاب، وللشعر بوجه خاص، دورهما الممتع والمفيد في مواجهة التحدي الذي تفرضه الأحداث على الفرد والمجتمع. إن استحضار القصائد التي زوَّدنا بها أساتذة أجلاء في أيام الصبا والشباب، أو الاكتفاء بأبيات منها، تبث أجواء من راحة النفس وسكينة الوجدان، وينتعش الأمل المرتجى بالمستقبل ناضراً سليماً. 
لقد ألمح الشاعر طرفة بن العبد في معلقته إلى أهمية المواجهة بقوله: [إذا كنتَ لا تسطيعُ دفعَ منيَّتي – فدعْني أبادْرها بما ملكتْ يدي]. وشواهد التاريخ تؤكد أن الإنسان، إذا ألمَّت به ظروف قاهرة كالحروب، والأوبئة، والزلازل، والأعاصير، فلا ينبغي أن يستسلم لها ويقف مكتوف اليدين، حائراً أو لامبالياً. وفي هذا السياق، نستحضر ذكرى «داحس والغبراء» وحكمة شاعر السلام زهير بن أبي سلمى، وهو يصور تلك الحرب ويندد بأوزارها الفاجعة: «وما الحربُ إلا ما علمتم وذقتمُ...». ونطالع حكمة الشاعر في أكثر من موضع: «رأيتُ المنايا خبطَ عشواءَ (...) ومن هابَ أسبابَ المنايا ينلنَهُ...». 
ولعل الشاعر لقيط بن معمر الإيادي هو أول من استشرف خطر الحرب والعدوان، منذراً قبيلته «إياد» بأن كسرى يعد العدة لغزوها، وكان الشاعر مترجماً في البلاط الفارسي، فيقول: [يا لهفَ نفسيَ إنْ كانت أمورُكمُ- شتَّى وأُحكِمَ أمرُ الناس فاجتمعا/‏‏‏ يا قومُ لا تأمنوا إن كنتمُ غُيُرا – على نسائكم كسرى وما جمعا]. لكن قصيدته وقعت في يد ذلك الطاغية فقطع لسانه، ثم قتله. 
 وفي شعر الملاحم، تحضر في الذاكرة حرب طروادة وترجمة سليمان البستاني: [ربة الشعر عن أخيل بن ڤيلا – أنشدينا واروِ احتداماً وبيلا]. ومن وحي تلك المقاومة الباسلة، كتب الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب في زمن الوحدة بين سوريا ومصر، قصيدته [أغنية انتصار لطروادة] ونشرتها مجلة «الآداب» اللبنانية. وفي اليابان زرت هيروشيما وناغاساكي، وقرأت العديد من الأعمال السردية عن تلك الكارثة، والدرس الإنساني البليغ الذي يتلقاه القارئ من الضحايا، يكمن في تساميهم على أوجاعهم، والتأكيد على أملهم في أن يتم تحريم السلاح النووي وتدمير مخزونه في العالم. وأذكر أن خبراء الإشعاع في اليابان تطوعوا لإسعاف ضحايا تشيرنوبل في الاتحاد السوفييتي والإسهام في علاجهم.
والذاكرة العربية حافلة بكوارث وأحداث جسام. والحارث بن عباد اعتزل بحكمته حرب البسوس، لكن الكارثة لاحقته يوم أرسل ابنه بجيرا إلى المهلهل، راجياً أن ينهي الصراع، فقتله قائلاً بحق: [بؤْ بشِسع نعل كليب]. وهذا ما دفع ابن عباد إلى مواجهة القاتل هاتفاً: [قرِّبا مربطَ النَّعامةِ منِّي – لبجيرٍ فداهُ عمِّي وخالي]، معلناً في قصيدته [إنَّ قتلَ الكريم بالنِّسْع غالِ]. ويوم انفجرت ثورة الزنج، وكابدت البصرة ألواناً من القتل والدمار، روعت أهوالها الشاعر ابن الرومي، فكتب قصيدته: [ذادَ عن مقلتي لذيذَ المنامِ – شغلُها عنه بالدموع السجامِ] وفيها يتلهف مفجوعاً بما حل بالمدينة المنكوبة: [دخلوها كأنهم قطعُ الليلِ.. إذا راحَ مُدلهمَّ الظلامِ]. ويعدد مشاهد الكارثة وما عانته البصرة من تنكيل وخراب، حيث تحولت [القصور إلى ركام من رماد...] وما أصاب الأهالي كان أشد هولاً وفظاعةً: [ألفُ ألفٍ في ساعةٍ قتلوهم – ثم ساقوا السِّباء كالأغنامِ]. وهو يدعو إلى مجابهة الثائرين بأسرع ما يمكن: [من غدا سِرجُه على ظهرِ طِرفٍ – فحرامٌ عليه شدُّ الحزامِ]. 
وضياع الأندلس ترك آثاراً فاجعة في صميم الوجدان وأعماق الذاكرة، وهذا أبو البقاء الرُّندي يبدأ رثاءه بحكمة وجودية يائسة: [لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ – فلا يُسَرَّ بطيب العيشِ إنسانُ»، وقد رأى أن [أمور] الحياة [دولٌ... مَنْ سرَّه زمنٌ ساءته أزمانُ]. ولعل حافظ إبراهيم في مواجهة زلزال مسينا، لم يكن أقل أسى وحسرة من أقرانه شعراء الكوارث؛ إذ يقول: [ما لمسِّينّ عوجلت في صباها – ودعاها من الردى داعيانِ/‏‏‏ خُسِفتْ ثم أغرقتْ ثم بادتْ – قُضِيَ الأمرُ كله في ثوانِ]. وكذلك كان موقف أحمد شوقي في نجوى دمشق يوم قصفها الفرنسيون، حيث يقول: [سلامٌ من صَبا بردى أرقُّ – ودمعٌ لا يكفكَفُ يا دمشقُ/‏‏‏ وقيلَ معالمُ التاريخ دُكَّتْ – وقيلَ أصابَها تلفٌ وحرقُ].
وأصل إلى أدهى كارثة قومية عاناها جيلنا، وأعني هزيمة الخامس من يونيو 1967، وكانت استجابة الشعراء سلبية تركز على تجريح الذات، وربما كانت قصيدة نزار قباني [هوامش على دفتر النكسة] من أقسى ردود الفعل، إذ ينعى فيها [.. اللغة القديمة] معلناً [نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة] ولا يستغرب خسارة الحرب [لأننا ندخلها../‏‏‏.. بالطبل والربابة/‏‏‏ و.. بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة!]

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©