السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

هل ما زال بإمكاننا أن نخلد إلى الوحدة ؟

من أعمال الفنان صفوان داحول (أرشيفية)
23 يوليو 2020 00:46

كتبت حنة آرندت عن سقراط قائلة: «حتى سقراط نفسه، الذي يعشق الساحة العمومية، عليه، بالرغم من ذلك، أن يعود إلى بيته حيث سيكون وحيداً، غارقاً في الوحدة، كي يلاقي الآخر». سقراط الذي يظل طيلة النهار تائهاً يجوب الآغورا، ويحاور الشباب، ويتصل بهم ويتواصل معهم، لن يلاقي الآخر إلا عندما يعود إلى بيته «حيث سيكون وحيداً».

تربط الفيلسوفة الألمانية، إذاً، بين الوحدة و«ملاقاة» الآخر. كأنها تريد أن تقول إن سقراط لا يلاقي الآخر إلا في ابتعاده عنه، وهو لا يحاور غيره إلا عندما يخلو إلى نفسه، إنه لا يتواصل إلا عندما لا «يتصل»، إلا عندما يكون وحيداً.
ربما لن ندرك مغزى كلام الفيلسوفة الألمانية، ولن نرفع عنه ما يظهر عليه من مفارقة، إلا إن نحن ميّزنا مع أستاذها وعشيقها بين ما يمكن أن نترجمه بـ «العزلة» Isolement وما تنعته هي بـ«الوحدة» Solitude. يعبّر أحدهم عن هذا التمييز بلغة الانفعالات والعواطف، فيميز بين ما ينعته بـ«ألم البقاء على انفراد»، وما يصفه بـ«فرحة البقاء على انفراد».
في نص شهير تحت عنوان «لماذا نحبّ البقاء في الأرياف؟»، يميّز م.هايدغر بين هذين المفهومين، قائلاً: «غالباً ما يندهش أهل المدينة من انعزالي الطويل الرّتيب في الجبال مع الفلاحين. إلا أنّ هذا ليس انعزالاً، وإنما هي الوحدة. ففي المدن الكبرى يستطيع المرء بكل سهولة أن يكون منعزلاً أكثر من أي مكان آخر، لكنّه لا يستطيع أبداً أن يكون فيها وحيداً. ذلك أن للوحدة القدرة الأصلية على عدم عزلنا، بل إنها، على العكس من ذلك، ترمي وجودنا بأكمله في الحوار الواسع مع جوهر الأشياء كلها».
قد يبدو كلام هايدغر، للوهلة الأولى، منطوياً على مفارقات، شأنه شأن كلام عشيقته. فهو، على عكس ما نتوقع، يربط الشهرة والثرثرة والإعلام بالانعزال، مثلما يربط الصّمت والتوحّد بالحوار والتواصل. يرتفع هذا الشعور بالمفارقة، إذا علمنا أن المفكر الألماني يريد بالضبط أن يفضح التواصل الكاذب الذي تفرضه الثقافة التنميطية التي تطبع مدننا الكبرى، تلك الثقافة التي تساهم في ذيوعها وسائل الإعلام التي تعمل على خلق روابط تجعلنا معروفين لدى الجميع «نتصل» بهم من غير أن نتواصل مع أحد بعينه، إنه يريد، إذاً، أن يفضح هذا التواصل الكاذب ليكشف أن وراءه عزلة حقيقية تغلفها «ثرثرة المتأدبين الكاذبة» التي تغرقنا في «الهُو المجهول» on، فيقابلها بما يدعوه وحدة «ترمي وجودنا بأكمله في الحوار الواسع مع جوهر الأشياء كلها».

  • من أعمال الفنان الإيطالي أنطونيو دي شيريكو
    من أعمال الفنان الإيطالي أنطونيو دي شيريكو

كتب هايدغر هذا النص في وقت كان لا يزال ممكناً التمييز فيه بوضوح بين الريف والمدينة، أي بين فضاء معزول «تسوده علائق حميمية يغلفها الصمت»، فضاء يخلد فيه الإنسان إلى نفسه، وفضاء يسوده انعزال مفتعل مغلف بعلائق سطحية «تغمرها ثرثرة المتأدبين الكاذبة»، يمكن للمرء أن يصبح فيه «مشهوراً في وقت قصير بواسطة الصّحف والمجلات»، معروفاً لدى الجميع، تربطه علائق بالجميع من غير أن تربطه بأحد.
لو ترجمنا تمييز هايدغر إلى لغة «وسائط الاتصال»، لقلنا معه: هناك فضاء الوحدة البعيدة عن «الصحف والمجلات»، ثم هناك فضاء العزلة الموهومة التي تكسرها هذه الوسائط التقليدية التي تجعلنا معروفين لدى الجميع، مشهورين بينهم.
ترى، ماذا كان سيقول فيلسوف «الغابة السوداء» لو أنه عاش معنا تجربة التواصل، لا عن طريق وسائط الاتصال التقليدية هذه المرة، وإنما عن طريق الشبكة العنكبوتية، وخصوصاً عبر واتساب وتويتر؟ المعروف أن هذه الوسائط الجديدة لا تميز بين «أرياف» و«مدن». وإنما تخترق الفضاءات جميعها، وتغزو العالم بأكمله. وهي تكسر المسافات، ليس بين الريف والمدينة، بل بين الأنا والآخر، بله بين الأنا ونفسه، وهذا من غير اعتبار للفضاء وتوزعه.
ربما لم تعرف البشرية تجربة هذا الاختراق لجميع الفضاءات والتوحيد بينها، مثلما عرفته فيما سمي بـ«الحجر الصحي»، الذي وإن كان قد تلوَّن حسب البلدان والقارات، فإنه تميّز على العموم بعزل الناس عن بعضهم بعضاً واقعاً، لربطهم فيما بينهم افتراضاً. ولاشك أن كلاً منا أدرك أنه لم «يرتبط» مع الآخرين بالقدر الذي ارتبط فيه معهم خلال مدة الحجر. فربما لم نثرثر قط بالقدر الذي ثرثرنا به في تلك الفترة. كنا نتصل لحظياً ونتبادل كل شيء، نتبادل النكت أولاً وقبل كل شيء «عسى أن نخفف من شأن ما نستعظمه»، ونتبادل الأخبار المتناقضة من غير أن نقيسها بأي معيار، وخصوصاً معيار العقل والتعقل قبل كل شيء. كنا غارقين بين أعداد المصابين والمفقودين، نعرف أعداد كل المصابين في جميع أنحاء المعمورة. تحولنا جميعنا إلى رياضيين وإحصائيين وأطباء ومديري مخابر. تبادلنا المعلومات الطبية الصحيحة وغير الصحيحة، تداولنا المصطلحات العلمية وأسماء الأدوية، من غير أن نعرف لها دلالة. خضنا في نقاشات حول الأدوية وصلاحياتها والفروق بينها، حول الأغذية وفوائدها. صرنا جميعاً إبستمولوجيين نعرف حدود المعرفة العلمية، فأكثَرْنا من الحديث عن اليقين واللايقين، عن النسبي والمطلق. لم يكن لدينا الوقت لكي ننسلخ عما كنا غارقين فيه. كنا مشدودين إلى ملاقاة الآخرين، نتصل بهم، كي نتبادل معهم كل شيء، كي نوحّد آراءنا وأذواقنا وإحساساتنا. لم نكن لنقوى على مواجهة ما كان فيلسوف «الغابة السوداء» يتحدث عنه من تفرد أصيل يدخلنا في الحوار الواسع ليس مع بعضنا بعضاً فحسب، وإنما مع «جوهر الأشياء كلها»، لم نعد نقوى على تحدي الافتراضي واستعادة الواقع، وربما لم نكن نريد ذلك، ربما اقتناعاً منا بأننا فقدنا القدرة على «الخلود إلى الوحدة».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©