الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

محاكمة إليف شفق

محاكمة إليف شفق
23 يوليو 2020 00:46

على الرغم من هجرتها النهائية إلى بريطانيا، لاجئة سياسية، قبل ما يزيد على السنوات العشر، فإن تركيا لا تزال تترصد إليف شفق صاحبة «قواعد العشق الأربعون»، إثر كل عمل جديد يصدر لها، وها هي تحاكم من جديد اليوم، على خلفية تناولها لمقتل امرأة تركية في روايتها الأحدث «10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب»، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة المان بوكر العالمية لعام 2019، وصدرت ترجمتها الهولندية مؤخراً، لتحتل شفق أغلب المنابر الثقافية في هولندا وبلجيكا، مهاجمة التعتيم التركي على حرية التعبير.

في «10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب»، تستعرض إليف شفق حياة بطلتها «ليلى تيكيلا»، فتاة الليل التي تُقتل ويُلقى بجثّتها في أحد صناديق النّفايات بإسطنبول، هنا تمرّ حياة ليلى المقتولة في لحظات احتضارها الأخيرة، كما لو كانت شريطاً متّصلاً من الصور المتتابعة، لتستعيد تاريخها كلّه في هذه الدقائق العشر والـ38 ثانية الأخيرة من نشاط دماغها، بكلّ ما يحمله هذا التّاريخ من روائح وألوان ونكهات وشخوص، تتساءل ليلى: كيف وصلت الأمور بها إلى هذا المآل؟ كل دقيقة كانت تجلب لها، ولنا كقرّاء، ذكرى جديدة، فيما يشبه مرثية طويلة لامرأة تحوّلت منذ سطور الرّواية الأولى إلى جثّة مرمية في مكبّ للنّفايات.

الصدام مع التقاليد
على هذا النحو، تدخل إليف شفق بسبب روايتها الجديدة، في صدام مع بلدها تركيا، فبعد أن قُدمت الكاتبة إلى المحاكمة ذاتها عام 2006، بسبب تلميحاتها التي ضمّنتها روايتها «لقيطة إسطنبول»، حول الإبادة التركية للأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، واصفة إيّاها بأنها «إبادة جماعية»، لتتمّ تبرئتها لاحقاً من تهمة «إهانة الهوية التركية»، حوكمت شفق من جديد، من قبل الادّعاء التركي عام 2009، للأسباب ذاتها، وهذه المرّة قرّرت شفق الهجرة النهائية من تركيا، بعدما استعانت بحارس شخصي لمدة 18 شهراً قبل مغادرتها تركيا إلى بريطانيا، بسبب الخوف على حياتها.
في روايتها الجديدة، لا تغادر شفق منطقتها الأثيرة في الدفاع عن حقوق النساء والأقليات، عبر رصدها أساليب العنف الممنهج في المجتمع التركي ضد المرأة، موضّحة في أكثر من حوار صحافي تزامن مع صدور روايتها، أنّ المجتمع التركي يتآكل من الداخل، ما استدعى منها التدخل ككاتبة، بحيث يكون للضحايا والمنبوذين صوت.

معارضة البطرياركية
حصلت شفق في الرابع من مايو الماضي، وفي اليوم العالمي لحرية الصحافة، على جائزة «غييرمو كانو» التي تقدّمها جامعة بروكسل الحرّة، وهي الجائزة التي تقاسمتها شفق مع مواطنها الكاتب والصحفي التركي المعتقل في إسطنبول أحمد ألتان، وهو ما ألقى بظلاله من جديد على الحالة المتردية لحرية التعبير في تركيا اليوم، والتي صارت، بحسب الكثير من المراقبين، «أكبر سجن للصحافيين في العالم»، حيث تراجعت الحريات الصحافية بشكل كبير منذ محاولة الانقلاب الفاشل منتصف يونيو 2016، والتي استغلها أردوغان للتنكيل بخصومه، بحسب ما يشير معارضوه.
يمكننا اعتبار رواية شفق الجديدة، إذن، معارضة أخرى للنظام البطرياركي الذي يستفحل في تركيا يوماً بعد يوم، ففي تتبّعها للحظات الأخيرة من حياة بطلتها المقتولة «ليلى تيكيلا»، تقدم لنا شفق على مدى 318 صفحة، مسرحاً لا يعتليه سوى المنبوذين والمبعدين داخل مدينتها الأثيرة إسطنبول، لتبدأ شخصيات الرواية تتجلّى أمامنا وهم يبحثون عن سر غياب صديقتهم ليلى، حتى يعرفوا بمقتلها ودفنها في مقبرة مخصّصة للمنبوذين خارج إسطنبول، فيبدأون في البحث عنها وهدفهم إخراج جثّتها لدفنها في مكان يليق بها. ولأنّ إليف شفق بارعة في رسم شخصياتها، فإنها تقدم لنا خمسة نماذج سوريالية من منبوذي المجتمع التركي الراهن، هم الأصدقاء الباحثون عن صديقتهم المقتولة: «سابوتاج سنان» ابن الصيدلي الذي يعاني عسراً في القراءة، و«نالان نوستالجيا» المتحوّل جنسياً، و«زينب 122» القزمة العربية التي لا يزيد طولها على 1.22 سنتيمتراً، والأفريقية «جميلة»، ومغنّية ملهى ليلي تدعى «هوليوود هيميرا». هؤلاء الأصدقاء هم من يبحثون عن جثمان ليلى في مقبرة المنسيّين خارج إسطنبول، لدفنها بشكل أكثر إنسانية في مكان آخر.

التحدي السردي
فكرة أن الرواية تبدأ من الدقائق الأخيرة في حياة ليلى تيكيلا بعد مقتلها، والتي استوحتها شفق، كما تقول في أحد حواراتها الصحافية، من دراسة علمية تشير إلى أن نشاط الدماغ البشري يظلّ يعمل بعد الموت لمدّة تقارب الدقائق العشر، سمحت للكاتبة الدخول في تحدٍّ سردي من نوع خاص، وهو: كيف لها أن تسرد هذه الحياة الطويلة لامرأة أربعينية، في هذه الدقائق العشر وبضعة ثوانٍ؟ وهو ما تجيب عنه شفق: «كان اكتشافاً علمياً مهمّاً وتحديّاً سردياً أيضاً، وهذا هو ما حاولت الإجابة عنه في الرواية».
من السطور الأولى عقب مقتلها، ندخل إلى حياة ليلى منذ ولادتها، كابنة لرجل من زوجته الثانية، التي تزوّجها بشكل غير رسمي، وبالتالي فليس لها حقوق كأمّ أو كامرأة. بعد الولادة مباشرة، تُمنع الزوجة عن تربية طفلتها، ويتمّ إعطاء الطفلة لامرأة أخرى لتقوم بتربيتها. ومنذ السادسة، يتم انتهاك الطفلة على يد أحد أقارب المرأة التي تربّيها، وعندما تصل ليلى إلى سن الـ16، تُجبر على ترك المدرسة، استعداداً لتزويجها من ابن مغتصبها، ما يدفع الفتاة إلى الفرار إلى إسطنبول، حيث تباع لأحد بيوت الدعارة، وتكتشف أنّها لم تختبر الحبّ الحقيقي إلا وسط أصدقائها الخمسة المنبوذين من مجتمع إسطنبول مثلها، فارتضوا بالعيش على هامشه، ليعوّضوها عن «عائلة الدم»، فصاروا ما تسمّيه شفق في روايتها «عائلة الماء»، والذين يشكّلون لدى ليلى المقتولة البديل الحقيقي لعائلة الدم التي تخلّت عنها منذ مولدها.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©