الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أفكار حول «ربيع أسود»

أفكار حول «ربيع أسود»
23 يوليو 2020 00:46

«اليوم أخرج لأقوم بمسيرٍ هاجسي آخر، إنني وذاتي ملتصقان معاًً بقوة. من جديد سماء تتدلى بلا حراك والهواء راكد، أخرس، وخلف السور العظيم الذي يطوقني يدوزن الموسيقيون آلاتهم، لم يبق إلا يوم واحد وبعده يأتي الانهيار، يوم واحد، وبينما أغمغم بهذا لنفسي، أنعطف فجأة متجاوزاً سور المقبرة إلى شارع ميستر، والانعطاف الحاد نحو اليمين يدخلني إلى أعمق أحشاء باريس. ويتغلغل الشارع خلال أمعاء مونمارتر الكثيرة التلافيف، والزلاقة، كجرح أحدثه سكين ثلم، إنني أخوض في الدماء، وقلبي يتلظى ناراً. غداً، سيختفي هذا كله، وأنا معه. وخلف السور الشياطين يدوزنون آلاتهم، أسرع.. أسرع، فقلبي يتلظى ناراً». 
(ربيع أسود ص 218 ترجمة أسامة منزلجي).*

نقد الحداثة
أنت في الشارع الآن، شارع مرتبك من ثلاثينيات القرن العشرين، بعد أن اقتحم «ميلر» عزلتك المصطنعة، صوته الحاد، الوقح في أول الأمر يجعلك تفكر في الهرب، في العودة إلى البيت، حيث جدران حداثتك المشتهاة، وتوحشك المقيم، لكنك تائه هنا، فشوارع باريس الثلاثينيات لا تكاد تشبه شوارعها اليوم، تستسلم أخيراً وتنساق، في الشارع، حيث «ميلر» وربيعه الأسود يؤكدان لك: «أن تولد في الشارع يعني أن تهيم على وجهك طوال حياتك، أن تكون حراً»، فيطوف بك في كيان سردي عشوائي الزمان والمكان، أجزاء مقتطعة من الطفولة، ثم التمشيات الوحيدة، نوافذ القطارات، دكان الخياطة حيث الأب والمهنة، غرف الشباب المغلقة على الجنس والتعرق، والأخرى الرثة المنفتحة على البرد وعالم الحشود المنساقة نحو قطيع الحداثة الجديدة. 
وتبدأ الرحلة، حيث كل شي هو بمثابة فكرة حرة، فكرة قد تلتصق بوجه عابر من طفولة ميلر، أو نبرة صوت، أو أصابع حادة تنقر على منضدة في بار صاخب، تجعل ميلر يتوحد معها، مع التفصيل الصغير، مستغرقاً في توحده الخاص، عن المدينة بمعناها الآخذ بالتشكل، كاشفاً عن فكرة الحداثة، فمدينة ميلر الأميركية أو الألمانية أو الفرنسية لا تشبه ما كانت عليه المدن في آنِها فعلاً، فهي مدن تحدث في ذهن ميلر غالباً، يحمل فيها الناس تاريخهم على جلودهم، الذي يتحسسه هو بشهوانية فجة، في منتصف عملية الخلق. تسمح له هنا بأن يهمس لك بارتياب: «إن كل مخلوق حي هو متحف يحوي رعب سلالته كلها، وكل إنسان يضيف جناحاً إلى المتحف». 
فكرة المتحف هذه، تجسدت في أولها بشكل بديع ومرعب في الوقت ذاته وميلر يتأمل سيدات أوروبا ذات ظهيرة من الثلاثينيات الميلادية، يلكزك ويستكمل الوشوشة «في وجوههن جمالٌ  مهترئ، وكأنهن الأرض نفسها شاركنها في معاناة كوارث الطبيعة كلها، تاريخ سلالتهن محفور على وجوههن، جلدهن كرق سجل عليه صراع الحضارة برمته، الهجرات، الضغائن، ممارسة الاضطهاد وحروب أوروبا، كلها تركت بصماتها هناك»، يسحبك بعدها من يدك وتركضان، وأنت تلهث جراء هذه الانخطافة المفاجئة وجراء ثقل فكرة المرأة والتاريخ، يذهب الرجال إلى الحرب ويموتون، يهاجرون أو يختفون، يسلخون بعيدا الجلود ويستعبدون سكان الأراضي البكر، ولا يحفل أحدٌ بمصير النسوة اللاتي يعشن، فيما تزداد سماكة جلودهن لتلخص ذلك التاريخ الدموي، يموت الرجال وينحون للخفة، وتبقى النسوة يحكن تواريخ من المرارة جيلاً بعد جيل، يحلمن بدفة قد يملكن توجيهها ذات يوم، لعل هذه الدماء المحتقنة تتفصد، لعلهن يعشن فعلياً ويتركن للرجال الاحتفاء الخاص بالموت دون أن يُستخدم جلدهن ككتاب للتاريخ المتوحش، لعلهن يرغبن بأن يكتبن في موضع ما سيرة شجرة، أو يتأملن في غموض المكان الذي تولد منه القصيدة في الذهن، أو المفردة الجديدة في حكاية التكوين، دون أن يستنكر أحدٌ أصواتهن، وروائحهن الجديدة، والطريقة التي يردن من خلالها للتاريخ أن يروى كفاعلات فيه، لا كسيرة هامشية، لا يحفل «ميلر» بفكرتك هذه وهو يتوقف بك فجأة ليروي نكتة بذيئة عن سيدة عابرة، أو عن رجل يبدو نبيلاً ظاهرياً، يكشف «ميلر» عن التفسخ، ولا يحفل بما في ذهنك، وتنساق أنت معه بانبهار غامض.

الفردوس المزيف
ترافق الرحلة موسيقا متوحشة، ضمنية، تشبه موسيقا القبائل البدائية الموشكة على حرب، يحافظ «ميلر» على اللحن البدائي، وهو يسخر من البدلات الأنيقة والتبرج وكل ما هو مبرر وضروري حينها، فلا بديهيات في الدغل، لا شيء له أن يقف في وجه قرع الطبول والصراخ الهمجي، والغضب خارج السيطرة، لن تصبح إنساناً، إن لم تكشف عن أصلك، المكون المشترك قبل التشذيب، ترقصان بضرب الأقدام على الأرض، عاريين، الجميع عراة حولكم، دون أن يجزع أحد، لكن، ما معنى هذه كله؟ يصرخ «ميلر»، يتركك ويمضي تحاول اللحاق به، وتفشل، تعود المدينة كما هي، الرجال إلى بدلاتهم والنساء إلى أثوابهن وجلودهن الثقيلة والهامش. 
«تكون المدينة في أوج جمالها حين يبدأ الموت العذب»، يقول «ميلر» وهو يقتل المدينة وأهلها، يرفض انمساخهم البراغماتي، حيث لا شيء حقيقياً ما لم يكن له وجودٌ قابل للاستهلاك، يقتلهم في المخيلة ويتركك معهم على الأرض، ينسحب بترفع كنسر عجوز نحو جبل بعيد، يراقب من أعلاه المدينة الخالية، التي لن تشبه تصوره الخاص عما يجب أن تكون عليه المدينة الجديدة فعلاً، يسلمك بعدها ساعٍ مجهول رسالة أخيرة منه، تفتحها بتلهف لتقرأ: «غداً تجلبون الدمار على عالمكم، غداً قد تغنون في الفردوس الكائن فوق خرائب مدنكم العالمية المدخنة. أما هذه الليلة، فأود أن أفكر في رجل واحد، في فرد واحد، رجلٌ لا اسم له أو وطن، رجلٌ احترمه لأنه لا يشترك معكم في أي شيء على الإطلاق، إنه أنا بذاتي، هذه الليلة سأتأمل في كينونتي أنا».

رسالة
غداً تجلبون الدمار على عالمكم، غداً قد تغنون في الفردوس الكائن فوق خرائب مدنكم العالمية المدخنة. أما هذه الليلة، فأود أن أفكر في رجل واحد، في فرد واحد، رجل لا اسم له أو وطن، رجل أحترمه لأنه لا يشترك معكم في أي شيء على الإطلاق، إنه أنا بذاتي، هذه الليلة سأتأمل في كينونتي أنا.
  
*«ربيع أسود»، هنري ميلر، ترجمة: أسامة منزلجي، دار المدى للثقافة والنشر.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©