الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

سراديب الذات

سراديب الذات
23 يوليو 2020 00:46

التاريخ الشخصي يصبح مادةً روائية. ذكريات الطفولة وما بعدها تتحول إلى مَشاهد، وتصير الرواية مجالاً، أو وسطاً لسبر الذات.
من خلال الحفر في الذات، يحاول الكاتب أن يجد الأجوبة على تساؤلات عديدة تشغله بشأن الجذور، الهوية، الانتماء، المخاوف.. إلخ، ومن خلال الحفر في الذاكرة، يحاول إعادة إحياء أجزاء معينة اختبرها في حياته.. وعبر هذه الذاكرة أيضاً تولد الذات.  في الواقع، يستحيل على الكاتب الإفلات من تجربته الحياتية الخاصة، من تاريخ المكان الذي عاش فيه سنوات طفولته ومراهقته، من الزمن الذي يتألف من لحظات خاصة ومراحل معينة. في كل كتابة، ثمة دائماً أصداء أو شظايا من الماضي. بل نستطيع القول إن كل شيء انعكاس للذات، فالكاتب عندما يقدّم لوحة سياسية أو اجتماعية عن أزمنة معينة، فإنه أيضاً، وبالضرورة، يقدّم بورتريها شخصياً عن وضعه، كفرد، ضمن تلك اللوحة. 
أبعاد السيرة الذاتية تتوفر في كل كتابة: تجارب شخصية، ذكريات، أشباح، أحلام، رغبات.

استعادة الماضي
الكتابة عن الذات هي حتماً كتابة عن مكان ما وزمن ما. بالأحرى، هي إعادة بناء للزمن ولجغرافيا المكان، وعبر ذلك، يتم استحضار ما يتصل بالماضي. لكن ليس بالإمكان سرد ذلك الماضي بأمانة تامة أو بموضوعية، فالذاكرة لا تصون، بل تخون أحياناً، ولا يمكن تفادي تحريف ما يُنظر إليه بوصفه الواقع أو الحقيقة.
عندما أردت كتابة روايتي «رهائن الغيب» اخترت من الماضي عاماً واحداً لأسرد من خلاله جانباً من السيرة الذاتية، هذا الجانب الذي تشكّل ليس عبر الذاكرة وحدها، بل المخيلة أيضاً. لقد حاولت في هذه الرواية إعادة بناء زمن لا يكفّ عن التملص والمراوغة، وإعادة رسم أمكنة اكتسبت بذاتها خاصيات جديدة، ليست جغرافية فقط، بل جمالية أيضاً، وحاولت استحضار شخصيات سكنت إقليم الطفولة والمراهقة، لكن هذه الشخصيات أيضاً اكتسبت لحظة الاستدعاء ملامح وطبيعةً أخرى، وانتحلت وجوهاً متعددة. أما الحدود بين الواقعي والمتخيّل، فقد أضحت مطموسة أو ضبابية. بالتالي، فإن البيوغرافي يتخلى عن الطابع الموضوعي، الوثائقي، ليتخذ مساراً تخيلياً وربما ميثولوجيا.
وإذا أردنا أن نتطرق إلى قارئ التجربة، وما تعنيه له تجربة الكاتب الذاتية، فبوسعنا القول: إن البعد البيوغرافي يتحلّل ويتبدّد عند تحولّه إلى مجال فني.. كالرواية أو الفيلم. إن فعل التحوّل يفضي إلى ذوبان التجربة الذاتية والذكريات الشخصية، بحيث توجد الرواية وتحيا بذاتها، وبمعزل عن كل العناصر والمصادر التي ساهمت في تكوينها.

الواقع البديل
الكاتب الحقيقي لا ينظر إلى نصه بوصفه مرآةً تعكس بدقةٍ وأمانة ما يدور في واقعه المعاش، وهو لا ينقل واقعه على نحو حرفي أو فوتوغرافي، مثلما يفعل المصور الفوتوغرافي، بل ينتقي أجزاءً أو شظايا من هذا الواقع في شكل أحداث أو شخوص، ومن الصور التي ينطلق منها يخلق، ضمن خط قصصي أو روائي، واقعاً قد لا يكون مماثلاً له، بل ربما يبدو مختلفاً جذرياً عنه، لكنه يظل متجذراً في ذلك الواقع الذي انطلق منه. بمعنى أن الكاتب لا يستطيع أن ينعزل أو ينفصل كلياً عن الواقع المعاش، فهو يستمد مصادره وعناصره من ذلك الواقع، لكنه يبني عالماً آخر من خلاله يوصّل رؤيته.
 انقلاب
هل ينقلب الكاتب على كتابته، أو يثور على ما سبق أن كتبه؟ بمعنى الاجتثاث الجذري لتجربة سابقة، بكل ما تحتويه هذه التجربة من أشكال ومضامين وأساليب وطرائق في التفكير والتعبير؟
أنت تنقلب على الشيء عندما يصير مضاداً لطموحك، أو حلمك، أو إيمانك، أو ضميرك، أو مبادئك. عندما يصير عائقاً أمام مسيرتك ولا بد من إزاحته.. كما يحدث في عالم السياسة. 
لكن التجربة الأدبية مختلفة. بداياتك، حتى لو بدت لك الآن ساذجة، أو مخجلة، أو مليئة بالعيوب والشوائب، تظل هي بداياتك، هي التي ساهمت في تكوينك، هي العتبات الأولى التي ارتقيتها لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم. هي أضحت جزءاً من ذاكرتك، نفسيتك، تاريخك، ماضيك. لا يمكنك أن تنقلب على ماضيك. 
في تجربة الكتابة، العملية تراكمية. أنت تتكوّن وتتشكّل من خلال تجاربك المختلفة، المتباينة، المتناقضة أحياناً. تلك التجارب معالم، محطات، في مسيرة النشوء والتطور، لا يمكن محوها أو إلغاؤها.

معضلة الهوية
الفرد لا يمتلك هوية واحدة، محدّدة وثابتة، بل هو مشطور إلى مجموعة من الهويات، فهو في البيت ينتحل هوية تختلف عن تلك التي ينتحلها في الشارع، أو موقع العمل، أو مع أصدقائه، أو بين غرباء. الواقع، أو المجتمع، يفرض عليه أن يرتدي الأقنعة، أن يمثّل أدواراً. في اليوم الواحد يتعين عليه أن يعيش متخفّياً وراء عدد من الهويات، الأقنعة، الأدوار.. التي من دونها لن يستطيع أن ينسجم مع واقعه، أو يتوافق، أو يتعايش معه. 
لكن ليس المجتمع وحده الذي يفرض تعدّد الهويات، بل الشخص نفسه يفرض ذلك عندما يتوق إلى أن يكون شخصاً آخر مختلفاً، أكثر قوة أو جمالاً أو غنى أو شهرةً.
في مراحل معينة من العمر، في فترة المراهقة والشباب، يتمنى المرء أن يكون الرجل السوبرمان، أو الرجل الخفيّ، أو الخارق، أو ما شابه.. أن يكون الكائن المختلف جذرياً. الواقع من جهة، والسينما وأشكال الميديا الأخرى من جهة، كانت تغذّي هذه الرغبات، أو التخيّلات، أو أحلام اليقظة. 

الكتابة بالضوء
مجازياً، يمكن القول: إن كل كتابة تضيء عالماً جديداً، مبتكراً، غير مألوف، هي كتابة بالضوء. كتابة مغايرة، خلافية، وذات جمالية آسرة.
مجازياً أيضاً، تلك السراديب الموجودة في الداخل، في العمق، في نطاق اللاوعي.. تلك الرغبات المكبوحة والمكبوتة والمقموعة بفعل كمٍّ لا يحصى من التابوهات، المحرّمات، المحظورات، الكوابح، القيود.. تلك التي تحتاج إلى إضاءة تكشفها وتخضعها للتحليل، من أجل أن تتحرّر.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©