الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

النمو والاعتراف

النمو والاعتراف
30 يوليو 2020 01:11

نريد أن ننمو، ونريد أن نحظى بالاعتراف. هذا كل ما نريده، ويريده كل كائن بشري. إنّ أهم ما نطلبه من الوسط الذي نعيش فيه، حتى نستمرّ في العيش فيه، هو أن يتيح لنا النمو، لذلك يفرحنا كل نمو نحققه، مهما كان ضئيلاً، وإن أهم ما نطلبه من الآخرين الذين نعيش معهم، حتى نستمر في العيش معهم، هو أن يمنحونا الاعتراف، لذلك يفرحنا كل اعتراف نناله، حتى ولو كان قليلاً. 
يحيلنا مفهوم النمو إلى سبينوزا، ويحيلنا مفهوم الاعتراف إلى هيجل. هذا عن معطيات تاريخ الفلسفة. أما عن التركيب ـ وهو مطلوب بدوره ـ فيحيلنا إلى مسارين متكاملين في آخر التحليل: 
من جهة أولى، يرغب الفرد في تحقيق النمو المتواصل نحو الاكتمال، ويندرج هذا الجهد ضمن مشاريع العيش الحكيم؛ ومن جهة ثانية، ترغب الحضارة الإنسانية في تحقيق التطور الدائم نحو تحقيق مجتمع اعتراف الجميع بالجميع، ويندرج هذا الجهد ضمن مشاريع الحداثة.
إذا كان المبدأ قائماً على ذلك الأساس، فليست الفلسفة المعاصرة، في كثير من جوانبها، سوى شروحات تكميلية، ونقاشات تفصيلية، ويمنحنا تاريخ الفلسفة مرة أخرى أمثلة بيانية وافية:
مثلاً؛ 
إن نمو الفرد نحو الاكتمال لا يتحقق كاملاً، طالما الحياة مشروع لا يكتمل، حسب وجهة نظر جان بول سارتر.
وإن تطور الحضارة الإنسانية نحو اعتراف الجميع بالجميع لا يتحقق كاملاً، طالما الحداثة مشروع لا يكتمل، حسب وجهة نظر يورغن هابرماس.
غير أن نمو الفرد نحو الاكتمال، قد تساهم فيه تقنيات الثورة العلمية الجارية في مجال الهندسة الوراثية، حسب وجهة نظر لوك فيري.
كما أن تطور الحضارة الإنسانية نحو اعتراف الجميع بالجميع، قد تساعد على تحقيقه الثورات السياسية في مجال الاقتصاد السياسي، حسب وجهة نظر كارل ماركس.
لكن ثمة مشكلة حقيقية: 
تحقيق مبدأ اعتراف الجميع بالجميع قد يعطل إرادة النمو، طالما الاعتراف متحقق بنحو متكافئ ومتبادل، حسب رؤية فريدريش نيتشه، وأيضاً وفق شروحات ألكسندر كوجيف. 
غير أن معاودة التركيب بإقحام أطروحة نيتشه، أمر ممكن.
ماذا يمنحني النمو حسب سبينوزا؟ يمنحني فرصة أن أحقق ذاتي، ولذلك كلما نجحت في ذلك المنحى، شعرت بالفرح.
ماذا يمنحني الاعتراف حسب هيجل؟ يمنحني فرصة أن أكون سيداً على ذاتي، ولذلك كلما نجحت في ذلك المنحى، شعرت بالكرامة.
النمو والاعتراف، هذا كل ما يطلبه الشخص على مدار حياته، وهو كل ما يطلبه النوع البشري على مدار التاريخ، ومن خلال تحقيق النمو والاعتراف يمكن تحقيق السعادة والكرامة.
إذا كان من شأن النمو المتكامل للذات، فضلاً عن الاعتراف المتبادل بين الذوات، أن يقودا إلى تحقيق السعادة والكرامة، فما الذي يعترض عليه نيتشه؟
لا يعترض نيتشه على الشق الأول من العبارة، والمتعلق بالنمو المتكامل، بل يعترض على الشق الثاني المتعلق بالاعتراف المتبادل؛ لأنه في نظره يشل غريزة التفوق، التي هي أساس النمو والحضارة. كيف ذلك؟ حين يضمن جميع الناس الاعتراف المتبادل والمتكافئ بينهم، فلن يبقى هناك من جدوى للجهد المبذول لأجل التألق والتميز والإبداع والتفوق في مختلف المجالات، الذي هو أساس نمو الفرد وتطور الحضارة. بهذا النحو ستنتصر الوضاعة في النهاية.
غير أن هناك مرّة أخرى حلاً تركيبياً، وهذا من حسن حظنا: 
بوسعنا أن نتحدّث عن الاعتراف المتبادل بتكافؤ الفرص، وبالنحو الذي يسمح لكل واحد منا أن يحقق نموه الخاص. هذا ما يجعل باب المجد مفتوحاً لمن يريد نيل فائض اعتراف إضافي في المجال الذي يتفوّق فيه. 
هكذا تصبح غاية معادلة النمو والاعتراف في الفلسفة المعاصرة على النحو التالي:
أولاً، تحقيق السعادة التي هي محصلة النمو المتكامل، وهنا نلتقي بسبينوزا.
ثانياً، تحقيق الكرامة التي هي محصلة الاعتراف المتبادل، وهنا نلتقي بكانط وهيجل وماركس.
ثالثاً، تحقيق المجد الذي هو محصلة التفوق المتواصل، وهنا نلتقي بنيتشه.
لكن هل وقعنا في فخ الوعد الخلاصي مرّة أخرى؟ 
أظنّ أن الأمر ليس كذلك؛ فلا نمو الذات يكتمل، طالما الحياة مشروع لا يكتمل، كما يؤكد سارتر، ولا الاعتراف بين الذوات يكتمل، طالما الحداثة مشروع لا يكتمل، كما يؤكد هابرماس، ولا تحقيق المجد نفسه يكتمل، طالما مجد الفرد يصب في إطار نمو النوع البشري، وفي كل الأحوال، «لكل شيء إذا ما تم نقصان»، كما يقول الشاعر العربي أبو البقاء الرندي، غير أن تقبّل عدم القابلية للاكتمال هو الكفيل بحمايتنا من مشاعر السخط والشكوى والتذمر، كيفما كانت النتائج والمنجزات.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©