الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

التجربة الفرنسية.. ماذا تُعلّمنا؟

التجربة الفرنسية.. ماذا تُعلّمنا؟
13 أغسطس 2020 01:28

حتّى العام الجاري، ومنذ ما يزيد على قرنين من الزمان، ظلّ نحو ثلاثة أرباع مليون من التلامذة الفرنسيّين يتقدّمون في أواسط يونيو من كلّ عام لخوض امتحانات السنة النهائية من دراستهم الثانوية أو الإعدادية لنيل ما يُعرف بشهادة البكالوريا. والامتحان الأوّل الذي يدشّن سلسلة الاختبارات التي تتوّج هذه المرحلة وتقود أغلب الطلبة إلى الدراسة الجامعية كان حتّى هذا العام هو الامتحان الخاصّ بمادّة الفلسفة. ولم يكن هذا الترتيب وليد مصادفة، بل ظلّ يعبّر عن احترام المؤسّسة التربوية للفلسفة ويؤكّد المكانة الرفيعة المعطاة لها في ذروة الهيكل الفكريّ والتعليميّ لثقافة البلاد. فلقد ظلّ هذا الامتحان يُعتَبر الامتحان الرئيس أو الأرفع، ويُوصف بكونه «أمّ الامتحانات». ومن المؤسف أنّ تغيرّات طرأت حديثاً على نظام البكالوريا الفرنسيّ، سنتوقّف عندها بعد وهلة، قد جاءت لتحدّ من آفاق هذه التجربة الاستثنائية.

شكّل تعليم الفلسفة في مرحلة البكالوريا في فرنسا تجربة رائدة ومديدة ينبغي أن نفيد من حسناتها، من حيث التأسيس العلميّ والفكريّ لهذه المادّة الدراسية بخاصّة، وأن نتلافى الوقوع في سيّئاتها، من حيث الإفراغ العمليّ لمادّة الفلسفة من أهميّـتها على أيدي الوزارات المتعاقبة في ميدان التعليم في العقود الأخيرة. هذا في اعتقادنا أمر ضروريّ وجدير بالاعتبار في هذه اللحظة التي اختارت فيها الجهات التربوية في الإمارات العربية المتّحدة القيام بالخطوة الشجاعة والبالغة الأهميّة، المتمثّلة في تتويج التعليم الثانويّ أو الإعداديّ لأبناء البلاد بتدريسهم الفلسفة. 
تمتّعت الفلسفة بهذه الأولوية في ترتيب الامتحانات النهائية في المدارس الثانوية الفرنسية وبالأهمّية المعقودة لها أثناء الممارسة التعليميّة منذ قيام نظام البكالوريا في فرنسا في 1808. ولا مفاجأة في ذلك، فهذا النظام التعليميّ انبثق من حركة «التنوير» الفرنسيّة وأفاد من المكانة المعطاة فيها للتحصيل الفكري. وحتّى بعد استقلال «بنات» الفلسفة (علم النّفس وعلم الاجتماع وباقي ما بات يُعرَف بالعلوم الإنسانية) عنها في العقود الأخيرة، إذ صار كلّ منها يشكّل ميداناً مستقلّاً يتمتّع في التعليم الجامعيّ بدروسه الخاصّة وشهاداته واختصاصاته، ظلّت الفلسفة في التعليم الثانويّ (الإعداديّ) تؤطّر هذه العلوم وتحتضنها في كلّ شامل، متكافل ومتكامل. 
ظلّ هذا الإبراز للفلسفة في التعليم الإعداديّ يشكّل خصوصيّة تمتاز بها فرنسا وتزهو بها بين الأمم. وتُعْلمنا مقالة لغاييل لورو عن تعليم الفلسفة في أوروبا أنّه في إيطاليا يتمّ تدريس تاريخ الفكر بعامّة، ويضطلع بتعليمه أساتذة التاريخ. وفي إسبانيا تكتفي المناهج بتعليم الفلسفة من منظور تحقيبيّ أو زمنيّ يستعرض أهمّ المدارس والوجوه الفلسفية تاريخيّاً، ولا يتوقّف إلّا بصورة مبتسرة عند المفهومات والأطروحات الفلسفية التي تشكّل في نظر المختصّين بالفلسفة جوهر هذا الميدان وعصارته الحيّة. وفي ألمانيا وسويسرا والسويد يندرج درس الفلسفة ضمن الدروس الاختيارية التي يمكن أن ينتقيها الطالب أو يفضّل عليها درساً آخر في الفنون أو اللّغات وسواها. كما يتعّرض درس الفلسفة في بعض البلدان إلى أنماط «احتواء» غريبة تُخضعه إلى اعتقادات دينيّة أو سياسيّة قريبة من أيديولوجية النظام الحاكم، وهو ما يتعارض مع صُلب الفلسفة باعتبارها مدرسة للتفكير الموضوعيّ الحرّ. وحدها البرتغال صارت منذ فترة قريبة تعمل بما يشبه نظام التعليم الفرنسيّ، الذي ظلّ درس الفلسفة يشكّل فيه مادّة إجبارية تشمل الجميع، وإنْ تعرّض عدد الساعات المكرّسة لهذا الدرس، بمقتضى الفروع والتوجّهات، إلى تغييرات يعدّها معلّمو الفلسفة وأنصارها مجحفة بحقّ الطلبة، ومن شـأنها أن تحرم بعضهم من أوسع انفتاح ممكن على الفكر الفلسفيّ، الضروريّ لكلّ متعلّم. في السنوات الأخيرة، ينال طلبة فرع البكالوريا الأدبية دروساً في الفلسفة تغطّي ثماني ساعات في الأسبوع، تقابلها أربع ساعات لطلبة التوجّه الاقتصادي والاجتماعيّ، وثلاث ساعات لطلبة العلوم الدقيقة، وساعتان لا غير لطلبة التوجّه التكنولوجيّ.
وعندما تراجع حيثيات هذه المادة وتسويغات درسها في البرامج الوزارية المتعاقبة تلاحظ أنّها جميعاً تؤكّد أهميّة هذا الدرس لتحفيز التفكير الشخصيّ لدى التلميذ، تفكير يناله بدراسة الموضوعات الأساسية والمفاهيم المفتاحيّة التي يهضمها بفضل عمل منتظم ومدروس يقوم به معلّم الفلسفة على نصوص وموضوعات وباعتماد مصادر ومراجع محدّدة سلفاً من قبل لجنة أكاديمية تنتدبها وزارة التعليم لهذا الغرض، تاركةً للأساتذة إمكان اختيار مراجع إضافية واتّباع الطريقة المثلى لتعليم هذه الموضوعات والمفاهيم. وفي هذا كلّه يحرص المعلّم كلّ الحرص على الموازنة بين استيعاب الطلبة للأفكار والقضايا الفلسفية ومعالجتها بشكل شخصيّ، وعلى نحو يتضافر فيه ‏العمل التحريريّ أو الكتابيّ على النصوص والعمل الشفهيّ الذي يتيح للطالب امتلاك تعبيره الخاصّ واستنفار أفكاره وحدوسه كلّما اقتضت الضرورة ذلك.

ذهنية نقدية
قلنا إنّ تعليم الفلسفة في نظام البكالوريا الفرنسيّ قد ولد من فكر التنوير، وجميع مناهج التعليم تحدّد بالفعل الهدف منه في إعداد مواطن متنوّر وقادر على اكتساب ذهنية نقدية واستقلال في الرأي، ومتمكّن من استخدام العقل وتحكيمه إزاء مختلف القضايا والأسئلة. يستوجب هذا الهدف الاشتغال طيلة العام الدراسيّ على عدّة مفهومات قريبة من الواقع كالعدالة والحقيقة والعمل والحريّة والطبيعة والحبّ والسعادة والتضامن والتسامح والفنّ والوعي والإدراك واللّاشعور واللّغة والعقل والزمان والتقنية، وما إليها. وهذه القضايا والمفهومات تُدرَس من خلال نصوص قديمة وحديثة نالت الإجماع عليها باعتبارها من أمّهات الفلسفة، من كتابات أفلاطون وأرسطو وتوما الإكويني وابن سينا وابن رشد إلى أعمال ديكارت وروسو ونيتشه وهوسرل وفرويد، وصولاً إلى نصوص برغسون وسارتر فوكو وآخرين. هذا كلّه يتحقّق من خلال جملة تمرينات وإعداد فكريّ متواصل ودقيق وواضح يساعد الطالب على مجابهة القضايا بطرح عدّة فرضيات وتمحيصها واستبعاد بعضها وترجيح البعض الآخر، حتّى يفلح في تحقيق المقاربة الأمثل للموضوع المطروق. 
المؤسف أنّ مرسوماً صدر قبل شهور من زارة التربية الوطنية الفرنسية وحمل عنون «إصلاح امتحانات البكالوريا» قد جاء ليزعزع هذا التقليد العتيد، بما يشكّل ترجمة دقيقة للتهميش الذي تعرّضت له مادّة الفلسفة بالتدريج في نظامِ تعليمِ بلدٍ ظلّ كما أسلفنا يفخر بهذه المادّة ويتباهى بكونه سبق الجميع إلى محضها هذه المكانة الرفيعة في تعليمه الثانويّ والجامعيّ. يقول هذا المرسوم إنّه اعتباراً من العام الدراسيّ القادم (2021)، سيتمكّن الطلبة من أداء امتحاناتهم في قاعات صفوفهم أثناء العام الدراسيّ، وهو ما يُسمّى في الجامعات بالاختبار المتواصل أو المتدرّج، ولن يبقى من امتحانات البكالوريا التي تشكّل في جميع البلدان العاملة بها موسماً مميّزاً وشعيرة أساسية في الحياة العلمية سوى امتحان تحريريّ (كتابيّ) واحد في مادّة الفلسفة، وامتحان شفهيّ شامل. هكذا سيصبح الامتحان الذي كان يتقدّم سلسلة الاختبارات هو الامتحان التحريريّ الأوّل والأخير، أي الأوحد أو اليتيم. وفي حين تدافع الوزارة عن قرارها بالقول إنّ الإبقاء على امتحان الفلسفة النهائيّ هو استمرار لتكريس هذه المادّة الفكريّة، فإنّ أساتذة الفلسفة ومناصريها يرون في ذلك بالعكس إفراغاً لها من محتواها وإفقاراً لها. والدليل هو أنّ الطلبة سيكونون نالوا عن طريق الامتحانات المتدرّجة التي يخوضونها أثناء العام الدراسيّ أربعة أخماس علاماتهم للسّنة المعنيّة، وسيسهل على كثيرين منهم التضحية بامتحان الفلسفة أو الاستعداد لخوضه كيفما اتّفق.
هذا التهميش لدرس الفلسفة بدأ في الحقيقة في سبعينّيات القرن الماضي، عبر ما عُرف بقانون هابي، باسم وزير التربية الوطنية رينيه هابي، الذي سنّه في 1975 إبّان عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان. ويتذكّر متابعو الفلسفة الفرنسية وتعليمها الحركة الاحتجاجية الهادرة التي قادها بين أساتذة الفلسفة أعلام شهيرون في مقدّمهم جاك دريدا وفلاديمير جانكليفيتش وجيل دولوز وبول ريكور وسواهم لحماية تعليم الفلسفة من هذا القانون المجحف الذي خفض عدد ساعات تعليمها وقلّل من عدد معلّميها وفرضَ للأسف نفسه. جاء هذا القانون استجابة لمشيئة أرباب العمل والإنتاج في فرنسا، أي لممثلّي النظام الرأسماليّ في البلاد، ومطالبتهم بتعليم يكّرس انتصار العلوم الدقيقة ويختزل حضور الفكر الروحانيّ، أو الفكر بعامّة. ولم يُلغَ القانون المذكور في العام 2000 إلّا بعد استيعاب العديد من إلزاماته في نظام التعليم المنتهَج اليوم، والذي يأتي المرسوم الجديد المشار إليه أعلاه والمتعلّق بإعادة ترتيب امتحانات البكالوريا ليشكّل امتداداً له.
هذه هي التجربة الفرنسية في تعليم الفلسفة في السّلك الدراسيّ الثانويّ، عرضناها باختصار. وإنّه لَيُمكن، لا بل ينبغي الإفادة من تاريخها المديد ومن المسوّغات التي قدّمتها لتعليم الفلسفة في هذا الطور من التكوين الفكريّ والذهنيّ للطلبة، ومن طرائق تعليم الفلسفة التي صاغتها أجيال متعاقبة من الفلاسفة والمربيّن ومعلّمي هذا الميدان. وينبغي بالمقابل تفادي ما عمدت إليه بعض السياسات الوزارية من تهميش لمادّة الفلسفة في التعليم الثانويّ إذعاناً منها لمنطق السوق ورأس المال ومجمل الخيارات الاقتصادية الطاغية. كما ينبغي في اعتقادنا تفادي آفتين لوحظ استفحالهما في التعليم الفلسفيّ في الكثير من الجامعات العربيّة، ألا وهما اختزال تعليم الفلسفة إلى عرض تاريخيّ لمدارسها وأعلامها، وتحبيذ حفظ المقولات الفكرية عن ظهر قلب، بما يحرم الطالب من اكتساب مقدرة شخصية على التفكير والحجاج والنقد. والسؤال المزدوج الأساس الذي يطرح نفسه، خصوصاً في التعليم الثانويّ الذي يبدأ فيه الطالب بتأسيس شخصيّته الفكرية، قد يكون هو التالي: ما هي المفهومات والقضايا الفلسفية الأساسيّة التي ينبغي تعليمها للطلبة، وما هي سبُل التعليم وطرائقه الكفيلة بتحقيق ثقافة فلسفية أوّلية مثلى لطلبة هذه المرحلة من العمر؟ كما لا يفوتنا التأكيد أخيراً على ضرورة استحداث تعليم شامل يأخذ الفلسفة من مختلف مصادرها، الشرقيّة منها والغربيّة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©