الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

فن التفكير في المستحيل

فن التفكير في المستحيل
13 أغسطس 2020 01:28

تُقال «الفلسفة» (هذا النوع من «الحب» الذي لا موضوع له) على معانٍ عدة؛ ولذلك نحن لا نسأل عنها بنفس الطريقة في عصريْن أو مجتمعيْـن مختلفين. كلّ سؤال عنها هو يصدر عن توقيع لا مرئيّ يوجّه أيّ علاقة معها، إلاّ أنّه قد يجدر بنا أن نميّزبين نوعين على الأقلّ من التساؤل عن معنى هذا الجنس من الخطاب، الذي ارتبط اسمه بتهديد مؤسسة الحقيقة في كل ثقافة: أحدهما داخلي، يطرحه الفلاسفة أنفسهم، يفترض أنّ أفضل إدراك لمعنى الفلسفة هو تعريفها وفق صيغة السؤال «ما هو؟». كذا تساءل هيدغر ودولوز وأغمبن، من المعاصرين. وقالوا: «ما هي الفلسفة؟»؛ كأنّه لا معنى لأي تساؤل عن «الحاجة إليها اليوم» إلاّ «بعد» إدراك مفهوم حقيقي عن «ماهيتها». أمّاالنوع «الآخر» من التساؤل عن «الشيء» المسمّى «فلسفة»، فهو ينتمي إلى منطقة خارجيّة، حدوديّة، معها، ولذلك هو استفهام يتحاشى السؤال «ما هو؟» ويفضّل أن يتساءل عن «جدواها» ولاسيّما «في هذا العصر». وذلك يفترض أنّ فهم «الحاجة إليها اليوم» هو أهمّ وأخطر من إدراك ماهيتها. وعلى هذا النحو تساءل أدورنو وهابرماس مثلاً، بوصفهما متفلسفين يقفان على مسافة نقدية وسوسيولوجية من ورثة التفلسف التقليدي؛ لأنّه صار يقع خارج مدار المجتمعات التي باتت تطرح أسئلة أخرى من جنس تاريخها الجديد.

لكنّ فلاسفة آخرين أخذوا سبلاً أقل فضولاً في احتمال هذا الإحراج الاستثنائي: فهم بقدر ما تخلّوا عن أسئلة «الماهية» والشوق إلى إعادة «تأسيس» المسائل القصوى للفيلسوف (مثل الوجود والعالم والنفس، الخ...)، هم أيضاً يستنكفون من أي تعامل «اقتصادي» يحاسب الفيلسوف بوصفه «خبيراً». هكذا عمل فوكو ودريدا ورورتي وسلوتردياك، مثلاً، على تغيير موضوع الفلسفة، والتساؤل مثلاً: ماذا يمكننا أن نفعل بالفلسفة؟ كيف يمكن للفلسفة أن تساعدنا على بناء عوالم، أو تشكيل ذاتيات، أو تصوّر أجهزة معنى لم يعرفها الإنسان التقليدي، ودون أن تحتاج لتسمية نفسها بما هي كذلك؟ إنّ اسم «الفيلسوف» ليس ضرورياً، المهمّ هو الحالة الفلسفية التي تنبثق في مجتمع أو جيل ما. 
من أجل ذلك، فإنّ سؤال «لماذا الفلسفة؟» يشبه أن يكون توقيعاً إنكارياً على توجّس ما من هذا النوع من فن التفكير. فهو يصدر عن منطقة خارجية أو حدودية، تفترض إمكانية الاستغناء عن الدخول في علاقة معها. ولذلك هي تبدو «لماذا؟» بلا سبب واضح. وكل لماذا بلا سبب مرئيّ، هي موقف لا يعادي الفلسفة بالضرورة، بل يستعمل حقّه في الإشارة إلى كل مساحة الإشكال التي تثيرها الفلسفة في أفق الفهم السائد لدى شعب ما. ولأنّه لا يوجد خوف أو قلق بلا توقيع، فإنّ التساؤل الإنكاري عن الفلسفة في جملتها هو أيضاً السياق المناسب والمخصوص، حيث تُطرح الأسئلة الإشكالية عن «الحاجة إليها» ليس فقط عموماً، بل «اليوم» تحديداً. «اليوم» هو توقيع حادّ ولا يقبل أيّ تفاوض أسلوبي معه قد يقلّص من هيبته الأخلاقية. معنى «اليوم» هو، إذن، أفق السؤال عن الفلسفة بوساطة صيغة «لماذا؟» الإنكارية، وهي الصيغة الوحيدة القادرة على تعويض صيغة السؤال «ما هو؟». وفجأة نرى كل مساحة الانتقال من «ما هي الفلسفة؟» إلى «ما الحاجة اليوم إليها؟».

 «حاجة» عاجلة 
إنّ عبارة «اليوم» هي التوقيع الذي يمتص كل خطورة السؤال عن الفلسفة، بوصفها يمكن أن تكون «حاجة» عاجلة لم نفكّر بها من قبل. ومن يملك مفهوماً مناسباً عن «اليوم» هو يملك سلفاً مقاماً مفيداً لمواجهة كلّ «لماذا»، مهما كانت عصيّة على الفهم -ولكن ما معنى «اليوم» المقصود هنا؟
لنقل دون مواربة: إنّ «اليوم» المشار إليه ههنا، ليس شيئاً آخر سوى «عصر التقنية». وكل وصف آخر هو ترجمة لما يحدث فقط، دون أن يستقلّ بتعريف خاص لنفسه. منذ هيدغر صار علينا أن نعرّف «اليوم» بالموقف الأقصى من الكينونة في العالم الذي نعاصره من الداخل. إنّه موقف «عصر التقنية» الذي أطلق عليه هيدغر اسم «القشتال» (Gestell): موقف يجمّع ماهية الكائن في قابليّته لأن يتحوّل إلى كينونة معلّلة، ومحسوبة، ومصوغة، ومخزّنة، ومستودَعة، ومُعَدّة تحت تصرّف إرادة تقع خارجها. أن نكون اليوم، هو أن نشعر بأنّ الكينونة في العالم قد صارت تتشبّه في ماهيتها بمحطّة خدمة، أو كهرباء أو حاسوب، أو برنامج إنترنت، أو هاتف خلوي، أو فضاء افتراضي... إلخ... كل هذه الأنماط من كينونة الكائن هي تستمدّ حقيقتها من تأويل واحد لمعنى الكائن: إنّه «القشتال»، ونعني معاملة الطبيعة وكأنّها مخزون محاصر بالعلل، تقوم التقنية باستفزازه وتحسيبه، حتى يطلق كل الطاقة التي يحتوي عليها، حسب إرادة لا تملك برنامجاً أخلاقياً لنفسها، سوى تلك الطاقة. 
إنّ التقنية هي شكل «اليوم» ما بعد الميتافيزيقي الذي دخلته الإنسانية دون امتلاك أي مخرج منه، أو أي قدرة على إيقافه. التقنية هي نمط كشف عن حقيقة الكائن بوصفه كينونة مجمَّعة ومجهّزة تحت تصرّف إرادة اقتدار تكمِّم كل شيء وتستهلكه، دون أي حاجة للسؤال عن معنى كينونته. لقد فقد الإنسان كل علاقة «قرب» أو «قرابة» مع كينونة التقنية التي صارت تهيكل أفق وجوده. وهكذا، ينبّهنا هيدغر إلى أنّ إرادة التقنية قد أفلتت من الإنسان، فهو واقع في لعبتها المرعبة، ولا يدري إلى أي جهة هي تنزلق به مسرعة. 
في هذا السياق المخصوص، علينا أن نعيد صياغة السؤال الذي انطلقنا منه، وعلينا أن نقول عندئذ: «لماذا الفلسفة في عصر التقنية؟». ما الحاجة اليوم إليها؟ في يوم أصبح فيه الإنسان -الذي ظنّ يوماً ما، حسب عبارة ديكارت، أنّه بالتقنية سوف يصبح بمثابة سيد ومالك للطبيعة - هو نفسه أسير «القشتال» المرعب الذي امتص كلّ تأويل ممكن لمستقبل الطبيعة البشرية بما هي كذلك. 

 كراهية الفلسفة 
قبل الدخول في عصر التقنية، كانت الفلسفة تقدّم دروسها النموذجية في راحة ميتافيزيقية مثيرة: كان درس سقراط، «اعرف نفسك بنفسك»، سبباً كافياً لمحبة الحكمة والانخراط فيها، بحثاً عن السعادة القصوى. إذْ كان الإنسان يشعر بأنّه الخانة الفارغة التي يجب ملؤها بالسؤال عن نفسه. ذلك أنّ سرديات «الوجود» و«العالم» قد استولت على كل مساحة الحقيقة، ولم تترك للحيوان «المائت» من مهمّة سوى أن يشغل نفسه بالسؤال عنها. وهو لا يملك من سبيل إلى إنجاز مهمّته، سوى أن يتشبّه بالمطلق بقدر طاقة الإنسان، حسب عبارة أفلاطون. وكان الافتراض هو أنّ معرفة أنفسنا سوف تقودنا من الداخل إلى معرفة الوجود نفسه، ومعرفة العالم أو المطلق، إلخ...
لكنّ دخول الإنسانية في عصر التقنية بشكل جارف ومعمّم، سرعان ما غيّر طبيعة الحاجة إلى الفلسفة، وبالتالي من طريقة التفلسف نفسها. 
إنّ الحدث ما بعد الميتافيزيقي الذي شكّل ملامح «اليوم» الذي نعاصره، هو أنّ عصر التقنية قد جرّد الفلسفة التقليدية من صلاحيتها، ولكن أيضاً من خطورتها القديمة، بل هو قد ألغى الشخصية التقليدية للفيلسوف ومع هذا الإلغاء، سحب أيضاً كل التهم المتوارثة ضدّه. ومن ثمّ، فإنّ شطراً واسعاً من الضغينة على الفلاسفة، ومن التجديف على اسم الفلسفة، قد تقادم بشكل مضحك. إنّ كراهية الفلسفة هي اليوم بلا موضوع. كل التهم التي توجّه إلى الفلسفة هي اليوم اتهامات فقدت صلاحيتها، لأنّ الشخصية المتهمة قد انسحبت من الركح (المسرح). إنّ الفلسفة التي يمكن اتهامها بإفساد الشباب، الخ... لم تعد موجودة إلاّ في سرديات حزينة لغير الناطقين بها. ولذلك، فإنّ كل الاتهامات ضد الفلسفة هي اليوم مجرد رواسب هوية لجيل سابق، جيل ينتمي في مصادر نفسه إلى ما قبل عصر التقنية. 
ذلك أنّ التفلسف في عصر التقنية، هو سلوك ما بعد ميتافيزيقي (لم يعد يؤسّس شيئاً ولم يعد يدحض أحداً) صار يقع ما وراء كل التهم التقليدية ضد الفيلسوف. وإنّ الموضوع الوحيد المناسب لهذا النوع من التفلسف ما بعد التقليدي، هو السؤال عن «المستقبل». وحده المستقبل يمكن أن يبرّر الحاجة إلى الفلسفة، لأنّ الفلسفة هي فن التفكير في المستحيل، بوصفه مطلباً عاجلاً لسكّان المستقبل. لم يعد الفلاسفة معنيين بأسئلة «الأصل» و«العلة الأولى» و«ماهية» الموجود، إلخ... بقدر ما صاروا مدعوّين إلى تهيئة نوع جديد من الكينونة في العالم، يتصالح مع الكون، ولا يتهمّه بأي شكل من الأشكال. 
إنّ عصر التقنية قد أعاد إلى الفلسفة براءتها؛ ونعني قدرتها الأصلية على الدهشة من تعقّد الكون وجلاله العميق. ولأنّ الدهشة من الكون هي حب بلا موضوع، فإنّ الفلسفة هي النوع الوحيد من الحب الذي نجا من البداهة. ليس أخطر على حبّ حقيقي من البداهة. وبهذا الثمن فقط، هو حب لا يمكن أن ينخرط في أي تهمة تقليدية. الفلسفة في عصر التقنية نوع من الحب بلا موضوع، يشعر بأنّه صار عليه أن يوجد «بعد» هويته التقليدية، وذلك أنّ «الحكمة» التي تدعوه إلى محبّتها هي لا توجد في أيّ سردية جاهزة حول نفسه. 
وعلينا أن نشير في النهاية إلى أنّ ما يقوله الغرب عن نفسه لم يعد ممرّاً إجباريّاً للتفلسف: إنّ عصر التقنية قد اكتسح الجميع، وطرد كل السرديات التقليدية. نحن لا نرى بعد ما هي الحقائق التي تمّ كنسها، وما هي العوالم التي لم تعد صالحة للسكن، ولكن أيضاً ما هي أنواع الذات التي انهارت وتحوّلت إلى عبء هووي على أطفالنا. إنّ التقنية لا تزال تحجب عنّا ما وقع لنا، بمجرّد أن تقنعنا بأنّ ما وقع هو أمر «تقني» فقط ولم يلحق أيّ ضرر بمصادر أنفسنا. لكنّ الفلسفة تنبّهنا -بعد أن تتخلّص من كل التهم التقليدية ضدها- إلى أنّ كل طفل على الأرض دخل في عصر الديجتال هو اليوم مشروع «فيلسوف» صغير، ولكن من نوع غير مسبوق: إنّ الفيلسوف القادم هو مؤرّخ المستقبل؛ ذلك الذي بإمكانه مساعدة نباتات المستقبل على ترويض المستحيل بوصفه مطلباً لم يعد يحتمل التأجيل. إنّ الطفل هو مستقبل الفيلسوف.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©