الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

إعادة الاعتبار للعقل

إعادة الاعتبار للعقل
20 أغسطس 2020 00:21

الفلسفة هي الوجه الناصع للتفكير النقدي ومساءلة الأشياء والظواهر، وهي ليست أمراً مخيفاً نتحوّط منه أو نتهيّب الدخول إليه، بدليل أنّ حضارتنا العربية الإسلاميّة قبلت الفكر وحوار الفلاسفة، وكان وجهها الفلسفي مضيئاً في فترات الاستنارة الفكرية، ويضاهي أقوى الأفكار الفلسفيّة التي عبّرت عن حضارات تعاطينا معها وتبادلنا الأفكار في إطار من الاحترام، وكان لنا المكان الأبرز في مساحة الحوار الإنسانيّ الفلسفي الحضاري.
وانطلاقاً من هذه القيمة العظيمة للفلسفة، وصف مفكرون ومشتغلون بالفلسفة ونقاد عرب وإماراتيون أهميّة الخطوة الجريئة والذكية لدولة الإمارات العربية المتحدة في قرارها تدريس الفلسفة في المدارس الثانوية (الحلقة الثالثة)، معتبرين هذه الخطوة قراراً صائباً ونموذجاً لدول أخرى في توسيع الرؤية تجاه تغيير الأفكار والرواسب المجتمعية التي تبدو على قطيعة مع العلم والفكر والمنطق في تداول الأفكار وتؤثر بالسلب، وتحديداً على فكر أبنائنا الشباب وتعاطيهم الإنساني.

بدايةً، يؤكّد المفكر الأردني الدكتور هشام غصيب أهميّة هذه الخطوة الجريئة التي اتخذتها دولة الإمارات العربية المتحدة في مجال التعليم وفي مجال التربية والتعليم، باعتبارها خطوةً تقدميةً كبيرة إلى الأمام، وانفتاحاً على العصر والمستقبل، متأملاً أن تحذو دول عربية أخرى حذوها، فليس هناك دول متقدمة لا تولي الفلسفة اهتماماً كبيراً، بدليل ما نشاهده في الجامعات الكبرى. أمّا في الوطن العربي، فبحسب غصيب، أُهملت الفلسفة على الصعيدين: الجامعي والمدرسي.
وتستمدّ الفلسفة قوتها، كما يرى غصيب، أولاً لأنها لصيقة بالعلم، بمعنى أنّ من يدرس تاريخ العلم يجد أنّ الفلسفة والعلم صنوان لا يفترقان، فهما يشكلان العقل النظري لحضارةٍ ما، وفي الحضارة العربية الإسلامية كان هنالك عقلٌ نظري لهذه الحضارة نقل في العلوم وفي الفلسفة أيضاً، إذ كان لدينا عقلٌ نظري في الحضارة العربية الإسلامية يضاهي العقل الذي شهدناه في اليونان الكلاسيكية القديمة.
ويعرب الدكتور غصيب عن أسفه لأن يُصفّي هذا العقل النظري في الحضارة العربية الإسلامية، فنشهد كلّ هذا التراجع الذي حصل، منطلقاً من أنّ الفلسفة هي الأقرب إلى العقل البحت، إذ إنّها تعلّم المرء الذي يدرسها، وتعطيه الجرأة على التفكير ومغامرة الفكر باستمرار، داعياً إلى ألا نكتفي بتدريس الفلسفة، بل أن ندرسها بالطريقة الصحيحة، خصوصاً وهي لم تُدرَّس بوصفها فكراً حياً، وإنما بوصفها معادلات وقوالب جاهزة (مؤدبة). 
وينطلق الأكاديمي د. بن يمينة كريم محمود، من جامعة سعيدة بالجزائر، من أنّ الفلسفة هي الحكمة في محبة المعرفة ومباحثة الفهم والتحليل والنقد، مهتماً بتحريك التفكير وإثارة الفضول واستدعاء التنوير.
 ويرى أنّ تعليم الفلسفة هو إضافة نوعية لكل تربية معرفية ورياضة ذهنية ومنطقية لتحقيق إرادة الفطرة وتعيين إدارة حريات الإنسان، فهي تزاوج بين مرونة الفهم وصرامة المنهج.
ونظراً لحضور الفلسفة في جميع الحياة، في اللغة، التاريخ، الأخلاق، الدين، الجمال،.. يتصوّر د.بن يمينة مدى أهمية هذا التحصيل في اكتساب الشباب تلك الفروقات اللغوية والمعرفية والتفكيرية بين الوهم والشك والظن والعلم والفهم والتحليل والتركيب في التفاعل مع الموضوعات والتماهي مع الموجودات. 

تعدد مستويات الحقيقة
يرى الباحث أسعد سليم، مؤلف «رواية الفلسفة»، أنّ قرار الإمارات في هذا المجال هو انتصاف للفلسفة، لكي تستعيد ذاتها ومكانتها الطبيعية، كرائدة للعلوم الإنسانية، كما يمثّل محاولة لإزالة الفكر النمطي السائد عن الفلسفة بأنّها لغة العقل غير المفهومة، مؤكّداً قدرة الفلسفة على تغيير عقول الأفراد، ومن ثم قيادة المجتمعات إلى العلو والتسامح والتنوير.
ويؤكّد أنّ تدريس الفلسفة لليافعين سيكون له دور كبير في اقتناع الدارس بتعدد مستويات الحقيقة، وعدم ادعاء أي شخص بامتلاك اليقين المطلق، وهو ما سيترتب عليه نشوء جيل ستكون قابليته لتقبل الآخر وآرائه ومعتقداته كبيرة جداً، وهو ما سيخرجنا من دائرة العنف والأصولية الدينية التي تخرب كل شيء، نتيجة لخراب العقول.
وترى الناقدة والأكاديمية الإماراتية مريم الهاشمي، أنّ الفلسفة ليست بالشيء الدخيل على الإنسان، فالحياة عبارة عن حلقات متصلة من الفكر والتأمل، وهي ظاهرة إنسانية ملازمة للوجود، كما أنّ الفلسفة ليست نظريات منعزلة عن واقعنا اليومي، بل هي اتجاه فكري عام نحو الحياة، وهذا الاتجاه الفكري هو الذي يؤثر بطبيعة الحال في سلوكنا ومعالجتنا لما يمرّ بنا من أحداث. 
وتوضّح الهاشمي أنّ الفلسفة مثّلت بتاريخها الواسع منطلقاً فاعلاً نحو بناء مجتمع للمعرفة، وتمكّنه من أن يتخلّص من التبعية والتقليد الأعمى لآراء الآخرين، مؤكّدةً أنّ على المؤسسات التعليمية الواعية والساعية لتطوير التعليم، والتي تولي الاهتمام بـ«ديداكتيك» المواد، أن تعمل ضمن وتيرة مستمرة، بناءً على متطلبات الواقع، حتى تُؤتي أكلها، داعيةً إلى استلهام جهود الأسلاف في هذا الموضوع، وما تركوه من تعليم وآداب.

تنمية القدرات
يشرح أستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية، الدكتور توفيق شومر، أهمية تدريس الفلسفة في أنها تمنح الناشئة القدرة على بناء قدراتهم في العديد من المجالات، فهي تساعد على بناء منظومة أخلاقية، وتسهم في البناء المعرفي وفتح الآفاق لفهم وتقبل الإنجازات الإنسانية، وبالتالي فهي تؤكد على «الإنسانية»، كما تسهم في وصول الفرد والمجتمع إلى غاياتهم، وتنطلق من فهم التاريخ والحاضر، بما تدعو إليه من التفكير الناقد والتساؤل الذي هو مفتاح المعرفة، والبحث والانفتاح وقبول الآخر، وهو مما يؤدي إلى تشكّل أجيالٍ قادرة على الحوار والإبداع والاختراع وحلّ المشكلات والنهوض بالمجتمع ليأخذَ طريقَه على دربِ العلم والتطوُّر، فالفلسفة تساعد على بناء تفكير منطقي وعقلاني يسهم في جعل العالم مكاناً أفضل للحياة.
ويرى د. محمد ربيع هاشم، من مصر، أنّ وجود الفلسفة كمنهج دراسي لطلبة الثانوي من ضروريات، بل أولويات القرارات الإيجابية لتطوير فكر وشخصية الطلبة، وتنمية قدرتهم التحليلية وفهمهم وإدراكهم لحقيقة الحياة والأمور المرتبطة بها.
وبخصوص ثمار دراسة الفلسفة على المجتمع وعلى الأفراد، يرى د. محمد ربيع هاشم أنّ ذلك يؤدي إلى إنشاء جيل مثقف يتسلح بالمعرفة العميقة لبواطن الأمور وتحليلها، مما يعود بأثر بالغ على ثقافة المجتمع نفسه وقدرته على مجاراة الأحداث ومستجدات الأمور، وغياب ظواهر الجهل المتفشي في بعض المجتمعات، كالفكر الغريب عن المجتمع والتطرف الفكري والديني.
ويستذكر الناقد والأديب علي العبدان أنّ الفلسفة كانت تُدرّس ضمن مواد الثانوية العامة في الماضي، متحدثاً عن تجربته الشخصيّة واستفادته من دراستها واطلاعه على مناهج الفلاسفة في التفكير والبحث من أجل الوصول إلى المعرفة الشاملة، وكذلك تعرّفه على آداب الجدل وقواعد المناظرات العلمية. ويذكر العبدان أيضاً من فوائد دراسة الفلسفة أنّه ومن خلالها تجنّب الذاتية في الطرح، متمسّكاً بالموضوعية، وكل ما سبق شكل جانباً كبيراً من شخصيته الثقافية، ولهذا فإن قرار إعادة تدريس الفلسفة الحديثة في الثانوية هو قرارٌ صائب، لأن الفكر في عالم اليوم بات يبنى على مناهج الفلسفة الحديثة، فمناهج الفلسفة الحديثة تقوم على التفكير المتعمق في الحياة والكون والوجود.

تعزيز الحوار
تؤكّد د.رفيقة بن رجب، من الجامعة الأهلية بالبحرين، أنّ تدشين وزاره التربية والتعليم في الإمارات مؤخراً لقرار تدريس مادة الفلسفة للمرحلة الثانوية، هو قرارٌ صائب لعده اعتبارات عقلانية ومنطقية، نحن اليوم في أمس الحاجة إليها.
وتؤكّد د. بن رجب أنّ هذا المشروع الضخم الذي أضافته دولة الإمارات العربية لم يأت لكي يضيف رقماً إضافياً إلى بقية المناهج التعليمية فحسب، بل جاء وبتحدٍّ ووعيٍ، لكي يتواصل مع الألفية الجديدة بجهود مؤسساتية ومعايير تحتاج إلى مهارة ذهنية سوف تحطم الصعوبات، وتتغلغل في عمق الصورة العلمية الموسومة بذاك التوازن الذي سوف يرتقي بها إلى أعلى المستويات.
وينطلق مفرح رزق، موجّه عام الفلسفة بمصر، من أنّ الفلسفة بمفهومها اللغوي «فيلوميناسوفيا» هي محبة الحكمة، وبالتالي فدارس الفلسفة سيكون محباً للحكمة، ومتنقلاً يحلل الأمور، ويغوص في أعماق المشكلة نحو التفسير والوصول إلى الجوهر ووضع الحلول، ودراسة الفلسفة تحرر العقل الإنساني من الوقوع في براثن الأفكار والموروثات غير الصحيحة، وتجعله يتطلع إلى ما هو أفضل في الحياة، ويرفض الواقع الذي لا يقبله المنطق، ولذلك فإنّ الفلسفة تساعد الفرد في الخروج من الواقع الافتراضي إلي عالم يقبله العقل الواعي.
من جهته، يؤكّد المذيع ومقدّم برامج الفلسفة في التلفزيون المصري أحمد صميدة أهمية الفلسفة في تعميق الوعي لدي الفرد، بدلاً من أخذ الأمور على علاتها، والارتقاء بالمستوى العقلي وحل المشكلات، وبالنسبة للمجتمع، فهي تعمل على الارتقاء بفكره، وحلّ مشكلاته، وتحقيق سلامه وأمنه الاجتماعي، ومساعدة الشباب على إعمال العقل، والبعد عن الجمود والتعصب للرأي والتطرف.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©