الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

اللغة الطاغوريّة لأرخبيل البنغال

اللغة الطاغوريّة لأرخبيل البنغال
20 أغسطس 2020 00:21

أفكّر في تلك اللغة المحتجبة والمختبئة اختباءً قسرياً، عبر الزمن خلف أقدار لغة أخرى حلّت محلها ونابت عنها في الحضور، اللغة الأم لكُتّاب المهجر والمنافي والرّحيل، تلك اللغة إذا ما بقيت في العتمة، صارت متعة الكتابة بغيرها ناقصة وشائبة بالافتعال والنُكران للروح والأصالة والخصوصية، لغة تمس ينبوعاً قديماً موغلاً في غابة الطفولة المنفي عنها الإنسان قدرياً، بعد اجتياز مراحل النموّ الأولى، إلى البلوغ وقياماته الروحية والفكرية والجسدية، واللسانية أيضاً، لكن النفي اللغوي هنا كان بغرض تبنٍ بدهي للسان آخر، هو لسان متعثر بالمهجر، أصف ذلك التبني اللغوي بالتعثر كي أعزز فكرة اللجوء نحو أحضان لغة باردة موحشة، هرباً من لغة الأم المستنزفة في العذاب وقسوة الأوطان وعقدة الرقابة، وما تبثه عبر التاريخ من حمولة تاريخية ونوستالجية وجينيّة على أبنائها المهاجرين، رغم أنها الينبوع والبراءة، بوصفها حِرزية وحارسة من النزاعات الجسدية.
 (بهارتي موكرجي) كاتبة وروائية من أصل هندي، ولدت في كالكوتا في إقليم البنغال، أدركت منذ بدء دخولها عالم الكتابة بالإنجليزية حجم الحمولة الأمومية والسلطة الشعرية للغة البنغالية، فهي أكثر لغات العالم سحراً وجموحاً وذوباناً طاغوريّاً في المحيط الرّوحي، «أن يولد الإنسان بنغالياً في غير بلاده، يعني بالضرورة أن يرث الفقد والشوق لأرضه الحقيقية»، عبقرية اللغة ص: 20، البنغالية هي لغة أنثوية مليئة بطاقة الشغف والوفرة بالنسبة لورثة النشيد الذهبي لأبناء الحقول البنغالية المتهيئة للحصاد.
في السيرة الذاتية القصيرة التي كتبتها موكرجي عن سلطة اللغة الأم عند التماهي مع اللغة الجديدة، تتضح حمولة التقاليد والأدب الشعبي والمقاصد المتضادة في الحياة كموروث ثقيل المعنى على الروح المهاجرة، وفي الآن ذاته تُمارس تلك السلطة اللغوية جبروتها الحنيني بكل لطف واستجداء، وكأنها في لحظات تتداخل بكل رقة ونشاط معية السيرورة التعبيرية للغة الدخيلة، وكأنها تغدو تنبيهية مقاوِمة للنسيان، عبر محاولة الخروج من الأنقاض في لحظة غفلة الكاتب عنها. 
تقول موكرجي: «الشاعر في مجتمعنا البنغالي منظّر وكاشف لألغاز الكون العظمى، لقد ورثتُ لساناً يحمل الكثير من التناقضات والمفارقات، قدرة المفردات البنغالية على حمل المعاني المتضادة ضلت ترافقني حتى وأنا أكتب اللغة الإنجليزية».
 ثمة عادة يكتسبها الطفل البنغالي في مجتمعه المتداخل مع الموروث اللغوي العالمي، بحكم الاستعمار والحركات التجارية والوفود، يألف الطفل بحثه في اللغة الوافدة عن الفكرة والمفردات بغية إعادة تشكيلها حتى تستقر كانتماء له، وكسبيل لتعزيز مفاخرته بخصوصية لغته المتجددة: «كلمات تسلب الألباب تحصّلنا عليها من الأمم، التي مررنا بها خلال رحلة الحياة: الحرب، التجارة، الزواج، الهجرة، وذلك دون أن نشعر بأنها تشكل أي تهديد على جوهر هويتنا»، وبذلك نهضت مفردات كالكوتا وحدها على أساس الاستلهام من الآخر والكسب المعرفي من إبداع الأمم المجاورة، وبما تحويه من رافد لغوي متحكم بالفضاء المروّج للقوة التواصلية بين الأطراف المستفيدة من مضمار التواجد على أرض البنغال. وبرزت أبعاد السلطة اللسانية للاستعمار لقرنين من الزمان على أبعاد اللغة الأم، التي ظلّت متهمة بالنقص والرجعية، بينما في نظر موكرجي تظل الأبجدية البنغالية أكبر بكثير من اللغة الإنجليزية الاقتصادية الجافة والمرتبكة أحرفها تنظيماً وروحاً داخلية. 
إن الإنجليزية لم تنجح في تهديدها المتراكم عبر السنين في قطع الضفيرة الحميمة للغة الموروثة والمكان والهوية، لم تنجح في إلغاء الروح الملحمية والواقعية السحرية في اللغة البنغالية، ورغم نمو مهارة موكرجي باللغة الأجنبية وطلاقتها اللغوية بها منذ علاقة الكلام الطفولي بلغة المستعمر المنتشرة آنذاك في أرخبيل البنغال، إلا أن الشوق الحميم إلى اللغة الأم يأتي متحداً مع الأصوات المغتسلة بقداسة الطبيعة: أشتاق للمفردة البنغالية التي نُحتت لتحاكي صوت عزيف الرياح، وصوت هزيم المطر، وصوت خرير الماء.... ص: 30.
تلك الطبقات المخبوءة والثاوية تحت غرين قديم وطمي حزين لآثار النبوغ اللغوي الأول في حياة الإنسان، صائراً إلى التعددية باللغة بفعل الترحل في غالب الأحيان من بلاد إلى أخرى، أو التنقل من عائلة إلى أخرى، أو من ثقافة إلى غيرها مضادة جزئياً أو متنافية مع الروح الأصيلة للثقافة الأم، وهكذا... فإن شعور أبناء ثنائيي اللغة لا بد أن يكون مغايراً بحمولته ومرجعيته الإنسانية، مشتعلاً بالتناقض وطاقة الصراع الداخلي، متأرجحاً بين ذاكرتين (ماضٍ وحاضر/‏‏‏ ركام وبناء/‏‏‏ رحم وصرخة/‏‏‏ أمّ ميتة وأمّ متبنّية.......)، وبالكتابة المستوحاة من لسان المهد يهنأ القلم، ويشيد الكاتب مستراحه الخصب، ويشرّع عليه راية الذكريات والوهج اللغوي، غير أنها تبقى لغة مستترة وأسيرة الردّة المذبذبة، تلقي بظلالها تبعاً لمواقف الاستدعاء والألم، وكأن قدرها أن تكون مجهولة ومتهربة وأحفوريّة.

هامش:• مُستلهمٌ من كتاب (ويندي ليسير): عبقريّة اللغة، المترجم للعربية على يد الكاتب (حمد الشمري)، دار أثر.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©