الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الوعي العلمي بالأديان

الوعي العلمي بالأديان
27 أغسطس 2020 00:24

في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لمّا كنتُ بصدد إعداد رسالة الدكتوراه حول المقارَبة الدينية لليهودية في الفكر العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والتي نُشرت لاحقاً في بيروت بعنوان «الاِسْتهواد العربي في مقارَبةالتراث العبري»، راجعتُ ما يربو على الخمسمئة عمل، دوّنهاكتّابٌ عربٌ خلال الفترة المعنيّة، على صلة بالتراث العبري. وتبيّنَ لي أنّ كثيراً من مضامينها انطباعات شخصية، ولا تتوفّر فيها شروط الكتابة العلمية، ولا تلتزم الحياد والموضوعية في دراسة الظاهرة اليهودية، وأنّ الأبحاث العلمية الحقيقية في ذلك الكمّ الهائل من الكتابات لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، ونذكر من بينها أعمال المؤرّخ الراحل كمال الصليبي، بشأن التوراة والتراث العبري، أو ما دوَّنه الباحث الأردني مهنّا يوسف حدّاد، بشأن الرؤية العربية لليهودية في رسالته للدكتوراه التي ناقشها في جامعة أوترخت في هولندا (1984)، وإن لم يسائل الأدبيات العربية في صحّتها أو علميتها، وإنّما سعى إلى عرضها، مقتصراً على تقديم المتناثر بشأن اليهودية وإسرائيل، دون تقييم أو تمحيص أو نقد. هذا فضلاً عن ضيق الرؤية التي يتمّ بها تناول اليهودية، بالتغاضي عن جوانب جوهرية مثل التصوّف العبري، والأدب التوراتي، والميثولوجيا التلمودية، وتراث الكابلاه، وحركة الأفكلارونغ، والتراث المسيحاني وغيره.

فبمقتضى الانخراط القسري لمبحث اليهودية واليهود، ضمن ثقافة المواجَهة والصّراع ضدّ الصهيونيّة والدّولة العبرية، رغم الفاصل الإبستيمولوجي الذي ينبغي أن يفصل بين العلمي والأيديولوجي، جاءت المقارَبة العربيّة لليهودية مصبوغة ومسكونة بهاجس السياسيّ، الذي كان وقْعه كبيراً على صدقيتها وعلميتها. والواقع أنّ منهج التّعامل الصّائب مع اليهوديّة، يقتضي تناول الظّاهرة في التاريخ لا فوقه، وبهذا تنزوي مقولات «العداء» و«الزّيغ» و«الضّلال» اللاّتاريخية، لتفسح المجال إلى وعي الظاهرة في عمق تشكّلها وتجلّياتها.
فنحن لدينا مدوّنة حديثة في اليهودية مختلّة ومعتلّة، ولا تمتّ بصلة إلى الكتابة العلمية. تُعبِّر عن عواطف جيّاشة، وحماسة مفرطة، ونزعة إيديولوجية طاغية. أدركتُ لاحقاً حين هاجرتُ إلى أوروبا، لماذا جُلّ ما كتبناه حول الدين اليهودي لا يُعتَدّ به، ولم يحْظَ بتقدير ضمن المدوَّنة العلمية، ولم يلْقَ صدى في الموسوعات العالمية، وكأنّ جلّ ما دُوِّن كان للاستهلاك المحليّ لا غير، في مجال بات حقلاً علميّاً يُعرَف في الغرب بـ«علم اليهوديات» أو «الاِسْتهواد»، كما شئتُ أن أطلق عليه.

ودراسة المسيحية ليست هي أيضاً بأحسن حال من دراسة اليهودية، وإن كنت لا أزعمُ أنّ دراسة المسيحية معتلّة بالشكل الذي عليه دراسة اليهودية، ولكنّ المنهج المعتَمَد، المتدثِّر بفكر الردود وبالمنظور المستنِد إلى مقولات أهل الذمّة، عقيمٌ ولا يستجيب إلى مستلزمات الراهن. إذ يكشف واقع الحال أنّ دراسات المسيحية في الثقافة العربية الحديثة لا تحوز المكانة اللائقة التي تستحقّها، وتغلب عليها قدامة في المنهج، ومحدودية في الرؤية، وقِلّة متابَعة للتطوّرات والكشوفات العلمية، المتعلّقة بهذا التراث العريق، وبأتباع كنائس هذه الديانة، داخل البلاد العربية وخارجها، وقد عالجتُ ذلك بشكل مستفيض في كتاب «نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم» الصادر في الدار البيضاء. وأذكر على سبيل الدعابة، لمّا كنت طالباً في جامعة الزيتونة في تونس أنّ أحد أساتذتنا، وهو لا يمتّ بصلة للدراسات المسيحية، وممّن يعتمدون منهجاً ردوديّاً حجاجيّاً في تدريس الأديان، كان يقرئنا القول الإنجيلي المأثور: «لا يعيش الإنسان بالخبز وحده، بل بكلمة من فمِ الربّ» (إنجيل لوقا 4: 4)، على نحو خاطئ: «لا يعيش الإنسان بالحبر وحده...»، ثم يستدرك مصحّحاً: «لا يعيش الإنسان بالخبر وحده...» فتضجّ قاعة الدرس بالتصويب: إنه خبز وليس حبراً ولا خبراً!
لماذا هذه المقدّمة التي عرّجتُ فيها على وَهَن التكوين العلمي في دراسة الأديان في الأوساط العربية؟ أقول ذلك لأنّ التأصيل للسلام بين الأديان يقوم على الوعي القويم، المستند إلى المعارف الصحيحة، لا على الوعي السقيم. ولأنّ الوعي العلمي بالأديان يصنع السلام ويؤصّل للائتلاف الإنساني، وأمّا الوعي الإيديولوجي فيزرع الشقاق ويباعد بين الخَلق. فقد أوجز اللاهوتي الألماني السويسري هانس كونغ الحديثَ بشأن العلاقة السويّة بين الأديان حين قال: إنه لا سلام لعالمٍ لا سلام فيه بين الأديان، ولا سلام بين الأديانِ من دون حوار بينها، ولا حوار بين الأديان من دون بحثٍ عميق في أصولها.
تنبّهتُ مبكّراً إلى أنّ دراسات الأديان لدينا هي دراسات واهنة، ولذلك عزمتُ على الالتحاق بروما للنهل ممّا لديهم من معارف. وقد كنتُ لمّا أخلو بنفسي وأتملّى واقع المجتمعات، التي باتت قائمة على التعدّد في الأديان والشراكة في الأوطان، يجاور فيها المسيحيُّ المسلمَ، ويعايش فيها المسلمُ الهندوسيَّ، والمتدينُ غير المتديّن، وهلمّجرا من الأصناف التي أنتجتها الحداثة، أتساءل: كيف يتسنّى بلوغ «مجد الله في الأعالي وعلى الأرضِ السّلام وبالنّاس المسرّة»، بعبارة إنجيلية، وأيّ السّبل لِصنع الائتلاف الإنسانيّ بين أتباع الأديان في وقت يعيش فيه العالم تجييشاً مقيتاً؟ كان السلام يلوح لي دربَ الخلاص الوحيد، ولكنّ السلام ليس كلمة عابرة، وإنّما هو قولٌ وفعلٌ وعِلمٌ. إذ لا يكفي أن يُردّد المرء أنّ الأديان تدعو للسلام، ولا أن يكتفي بالإشادة بالسلام حتى يعمّ السلام، بل إنّ ذلك المنشود لن يكتب له النجاح حتى يتمّ تطوير ثقافة السلام، ولعلّ ذلك هو النهج الكفيل بإرساء السلام الدائم. ربما كانت المسيحية على صواب حين طوّرت ما يُعرف بـ«لاهوت السلم»، وبالمثل أصابت الجهات الراعية في الإمارات العربية المتحدة حين بادرت بإنشاء «موسوعة السلم في الإسلام» وتجشّمت تشييد ذلك الصرح المعرفي.
ما يلوح في ظرفنا التاريخي أنّ هناك تحوّلاً في الوعي بالسلام، من السلام الداخلي، وِفق منظور خاصّ ومصلحة مجتمعية حصرية، إلى السلام المشترك، وفق مصلحة عامّة ومنظور جماعي وهو تحوّل واعد ومثمر.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©