الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

إرث الإنسانية المشترك

إرث الإنسانية المشترك
27 أغسطس 2020 00:24

من بين أهم القضايا التي استغرقت الإنسانية منذ بداية الخلق، وأغلب الظن أنها ستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تبقى قضية السلام على الأرض، السلام المنشود تارة والمفقود تارة أخرى، ويبقى الحديث عن مفهوم السلام وقيمه الأولية،  بحاجة إلى توكيد مستمر ومستقر.
يمكن، باختصار غير مخل، القول إن السلام هو الحالة المقابلة للحرب والعنف، وسيادة أجواء الطمأنينة والسكينة والهدوء، عوضاً عن الخوف والقلق والاضطراب، والسلام هو الضد من الخصام، والمفهوم المفارق للعنف اللفظي أو الجسدي، سواء كان ذلك بين الأفراد أو الجماعات والدول.
والشاهد أن الأصل في كيان الإنسان هو السلام، غير أن الحروب والقتال وجدت على الأرض منذ أن كانت الأسرة البشرية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولاحقاً تطور المشهد إلى الصراع بين الإنسانية والبيئة، وفقدت الأرض سلامها منذ أن فتحت فاها وشربت دماء ابن آدم.

منذ وقت بعيد والإنسان يسعى إلى السلام، غير أن قدميه عادة ما كانتا توحلان في الحرب، ولهذا فإن حلم السلام الأممي تجلى في كتابات الآباء الأولين بصورة تنزع ناحية المدينة الفاضلة، الأمر الذي نجده عند «أوغسطينوس» في رائعته الخالدة «مدينة الله»، كما نجده عند المعلم الثاني «الفارابي» في «المدينة الفاضلة»، وجميعها تسعى في طريق القيم الأخلاقية عالية القدر وغالية القيمة، كالعدالة والمساواة والإخاء.
والشاهد أن هناك رغبة دولية في حاضرات أيامنا في أن يسود العالم سلام حقيقي فعال على الأرض، لا أن يكون الأمر مجرد أحاديث نمطية غير بناءة، وربما يحاول إنسان القرن الحادي والعشرين، أن يجد في حربين عالميتين ما يكفي من دروس لردع كل من يفكر في إفساد السلام العالمي وإشعال الحروب مهما كانت العقبات على الأرض، فالحوار والجوار، عبر السلام الفاعل، كفيلان بوقف إطلاق النار ونبذ العنف، ومحاولة الاقتراب من حدود وسدود المدينة اليوتوبية الفاضلة، وحتى لو كان الأمر مجرد حلم طوباوي، فإن السعي إليه كفيل بتغيير وجه الكرة الأرضية.

السلام العالمي
أحد الأسئلة الجوهرية في طريق بحثنا عن السلام من حيث المعنى والمبنى:«هل يمكن للمظلة التوحيدية الإبراهيمية تحديداً أن تكون منطلقاً لعالمنا المتشظي في طريق البحث الجاد والجدي عن السلام»؟.
في كل الأحوال تبقى الأديان الإبراهيمية المرجع الأساسي والرئيس في ترسيخ مفهوم السلام العالمي.
رسالة الأديان كافة، دون تخصيص، هي رسالة سلام، فهي تسليم لله تعالى بالوجود، وتسليم لقوانينه ونواميسه الإلهية بالاحترام والتقديس والالتزام.

من هذه «الضوابط السلامية»، للأديان إن جاز صك هذا المصطلح، يتكشف للمرء أن كافة خيوط وخطوط القوانين واللوائح والشرائع الوضعية، محلية كانت أو دولية، إنما وجدت من أجل تعزيز السلام بين المرء وخالقه، والإنسانية وبعضها بعضاً، وكذلك بين الدول والقارات حول البسيطة.
إن نظرة سريعة على الإرث الإبراهيمي المشترك، وتقاطعات خطوطه وتشابكات خيوطه مع مفهوم السلام، تدهشنا حقاً، ولتكن البداية بحسب التسلسل التاريخي من عند اليهودية.
هل أتاكم حديث «حائط أشعياء» أمام مبنى الأمم المتحدة في جزيرة مانهاتن بمدينة نيويورك؟
الذين قدر لهم زيارة هذا الموقع عند الأفنيو الأول وتقاطعه مع شارع 43، يجد المرء حائطاً مكتوباً عليه هذه الآية والماخوذة من الإصحاح السابع عشر من سفر إشعياء النبي، النبي الباكي والحزين من بني إسرائيل، وفيها يقول:«فيطبعون سيوفهم محاريث، ورماحهم مناجل، ولا ترفع أمة على أمة سيفاً، ولا يتدربون على الحرب فيما بعد».
هنا دلالة الكلمات تغنينا عن الشرح، فالسيوف الموجهة إلى الصدور تضحى محاريث للأرض، تبحث عن الزرع والنماء وشبع الإنسان، والرماح تتحول إلى مناجل تحصد خير ما يزرع الإنسان، وبذلك تتحول الحرب إلى سلام.
وبالانتقال إلى المسيحية نجد الدعوة واضحة، صريحة ومريحة..«طوبى لصانعي السلام فإنهم أبناء الله يدعون»، وهي الآية الشهيرة التي جاءت في الموعظة على الجبل.
وفي عمق البحث عن السلام في المسيحية، يدرك الباحث أن المفهوم متجدد دوماً ومتطور يومياً، وغير ثابت، بل متحرك يسعى للقفز إلى الأمام، وعليه ينبغي ألا يغيب أبداً عن البال أن القيام بمبادرة سلام قد يجرد الخصم من سلاحه، وغالباً ما يحمله على التجاوب بإيجاب، وأن يمد يده للسلام الذي هو الخير الأسمى.
وبالوصول إلى الإسلام، يجد المرء أن السلام اسم من أسماء الله الحسنى، والسلام طبقاً للتصور الإسلامي يعد عملاً من أعمال الإنسان، وفي الوقت نفسه يعد نعمة من نعم الله على البشر، وقد وصف الله تعالى نفسه في القرآن الكريم بأنه «السلام» وذلك في سورة «الحشر:23»، والمصطلح العربي للسلام مشتق من الأصل ذاته الذي يشتق منه لفظ الإسلام، فهناك تطابق بين الإسلام والسلام.
لماذا- إذن - يبقى السلام مهدداً في كثير من بقاع وأصقاع العالم وعلى مر التاريخ، وما العلاج الناجع لمواجهة مثل تلك المهددات؟
يمكن القول إن علاج الكراهية العرقية يتمثل في الحوار والجوار وفتح الآفاق للتعرف على الآخر، ففي مجال بناء السلام بشكل عام، فإن الاتصالات المفتوحة والتي تكون وجهاً لوجه بشان المشكلات والنزاعات تعتبر مثمرة، وخير ألف مرة من التهرب أو العنف، بل تقلل تكلفة المنازعات بمعالجة جميع مظالم الطرفين المتنازعين، وهنا أيضاً يظهر الدور الخلاق للطرف الثالث، والذي يتدخل لصنع السلام عن طريق تسهيل الاتصالات وتقليل التوتر، والمساعدة في إعادة بناء العلاقات التي هشمتها الأنانية ودمرتها الحروب.
السلام يحتاج للرجال الشجعان ولأصحاب الأيادي القابضة على الجمر، لإطلاق وعي كل منا بالآخر وتقديره له، وحاجتنا المشتركة للتواصل الإنساني.
السلام ليس مفهوماً معقداً يقتصر فهمه أو تحقيقه على رجال الدين والباحثين، الفلاسفة والمفكرين، جميعنا مدعوون لتحقيقه، عبر الحديث مع أعدائنا أو من نظنهم كذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©