السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أقنعة.. وكمامات

أقنعة.. وكمامات
3 سبتمبر 2020 00:31

اللفظ الفرنسي «ماسكاراد» «mascarade»، ذو الأصل الإيطالي، الذي اشتق منه لفظ «ماسك» الفرنسي masque الدال على القناع، ليس من السهل نقله إلى اللغة العربية لما يكثّفه من معانٍ تكاد تكون متناقضة. فهو يدل في الوقت ذاته على لعبة مسرحية ترفيهية تشمل مشاهد أسطورية وهزلية تؤديها شخوص مقنّعة، كما أنه يعني زيّاً للتنكّر يثير السخرية لما يطبعه من غرابة، وأخيراً لأنه يدل على كل موقف منافق وإخراج مضلّل. ولا ينبغي أن نأخذ كلمة «منافق» هنا في معناها الأخلاقي، وتوضيحاً لذلك، لا بأس أن نذكر المعنى الذي يربطها به ابن رشد في تلخيصه لكتاب أرسطو طاليس في الشعر، إذ يقول: «فليس يحتاج في التخيل الشعري إلى مثل هذه الخرافات المخترعة، ولا أيضاً يحتاج الشاعر المفلق أن تتم محاكاته بالأمور التي من خارج، وهو الذي يدعى نفاقاً وأخذاً بالوجوه».

وهذا الربط بين التضليل و«النفاق» و«الأخذ بالوجوه» ولبس الأقنعة لا يظهر لأول وهلة أن بإمكاننا أن نجده فيما أصبحنا ندعوه «الكمامات الواقية» التي تبدو بعيدة عن معاني هذا الاشتقاق للفظ «قناع»، وربما حتى عن لفظ «قناع» ذاته. 

خلق التباعد حمايةً للذات
صحيح أن كثيراً من اللغات الأجنبية تفضل أن تطلق على هذه «الكمامات» الاسم نفسه الذي تطلقه على القناع حتى وإن كانت لديها كلمات أخرى، إلا أن اللغة العربية تخص الكمامات باسم خاص. فما يميز هذه «الكمامات» التي فرضها الفيروس التاجي على سكان المعمور، هو أنها لا تحمل أياً من المعاني التي تبيّناها في أصل كلمة «ماسكاراد». فهي لا ترمي لا إلى «نفاق» ولا إلى تنكّر أو هزل وسخرية. والأهم أنها لا ترتبط بالاحتفال والفرجة والحياة. وقد بيّن الباحثان آلار ولوفور أن «الماسكاراد» تعود لأزمنة قديمة، وبالضبط للاحتفالات التي كانت تقام على شرف اثنين من آلهة اليونان، آرتيميس وديونيزوس. أما الكمامات فترتبط، على العكس من ذلك، ليس بالفرجة، وإنما بالفيروسات والأمراض. ثم إنها لا ترمي إلى خلق التواصل، حتى وإن كان بطرق ملتوية لا تخلو من تمويه، بقدر ما تهدف إلى العزل والانفصال وخلق التباعد حمايةً للذات حتى ولو كان ثمن ذلك التضحية بالعيش مع الآخرين و«الابتعاد» عنهم. الكمامات جدار واقٍ أكثر منها تنكراً ومحاولةً لتقديم صورة معينة عن الذات وتقمصاً لشخصية بعينها. 

شخصيات وأقنعة
الأصل اللاتيني لكلمة «شخصية» و«شخص» الفرنسية Personne, Personnalité هو Persona الذي يدل على القناع. لكي نعيش مع الآخرين ينبغي أن نكون أشخاصاً وليس مجرد أفراد. ينبغي أن نلبس شخصيات وأقنعة. ومهما كانت هذه الأقنعة فهي، في جميع الحالات، أداة اتصال وتواصل، حتى وإن كان التواصل غير مباشر، حتى وإن كان عن طريق التنكّر. أنا أتقنّع لأظهَر للآخر في صورة بعينها. القناع طريقة معينة للظهور. أما «الكمامات الواقية» فهي، مبدئياً، طريقة للاختفاء، وهي ليست أداة تواصل، وإنما أداة عزل بالدرجة الأولى، وهي كذلك لأنها تحجب جزءاً مهمّاً من الوجه.

امتداد في المعنى
كان المفكر المغربي محمد عزيز الحبابي قد بيّـن أن العرب لم يعرفوا قديماً لا لفظ «شخص»، ولا مفهومه في دلالته المعاصرة. والكلمة التي كانت عندهم تؤدي هذا المعنى للشخص هي كلمة «وجه». واستعملت هذه الكلمة في معناها الحقيقي، ولكنها استخدمت أيضاً في معنى مجازي بمعنى «نظر». و«بما أن الوجه يُعدّ أشرف ما في الكائن، صار يدل على الكائن كله، مع امتداد في المعنى... فبعد أن أخذت الكلمة معاني أخرى مثل «ظهور»، و«صورة»، دلت في النهاية على الوجود، ثم على الشخص بصفة عامة. (نجد ذلك في عبارات مثل «كرّم الله وجهه»، و«الوجهاء». 

الـ«وجه» و«الشخص»
هذا الربط بين الـ«وجه» و«الشخص» والقناع يوجد حتى في اللغة الإغريقية، فالكلمة الإغريقية Prosopon دلت، أوّل الأمر، على «الوجه» وفيما بعد على «القناع»». القناع وجه مستعار يرمي صاحبه إلى أن يظهر بمظهر مخالف، وأن «يتواصل» بطريقة مقنّعة. أن يظهر لـ«الآخرين» بـ«وجوه متعددة»، وينتحل عدة شخصيات، بل إن «مجتمع الفرجة» والمظاهر قد يدفع المرء إلى ألا يكفَّ عن وضع المساحيق، أو حتى أن يخضع وجهه لجراحة تجميلية أو «ليفتينغ»، فيضع قناعاً ملازماً يستعيض به عن وجهه الطبيعي.
كل هذه الطرق المقنَّعة لا نلقاها في «الكمامات الواقية» التي لا تستهدف ظهوراً معيناً أمام الآخرين، وإنما تبتغي حمايتنا وتحجبنا، بعضنا عن بعض، إذ لولاها لظهرنا لبعضنا مصدر فزع وارتياب، بله مصدر تهديد وخطر. إنها تولِّد عالماً بلا تفاعل اجتماعي، ذلك أنها، إذ تحجب جزءاً أساسياً من الوجه، تجعلنا نبدو للآخرين «من غير وجه»، وبذلك فهي تحجب مشاعرنا وإحساساتنا وتحشرنا في عالم الملثمين مجهولي الهوية والمشاعر، فتوحّد مظاهرنا وتقضي على فروقاتنا وتمايزنا. ولعل ذلك هو ما وراء القلق والتضايق والتخوف الملازم الذي يبعثه فينا ارتداؤها.

الانتباه للآخر
وهذا التضايق والتخوّف لا يدع العين تفعل فعلها وتقوم بوظيفتها كـ«منفذ للروح» وبوابة للتعبير عن المشاعر وأداة للتواصل الاجتماعي. فهي تكاد تقتصر، من خلف الكمامات، على التعبير عن الفزع والاحتراس والتخوف. 
ولكن، هل كان الفضاء الاجتماعي في مجتمعاتنا المعاصرة قبل ظهور هذه الكمامات الواقية فعلاً على غير هذا النحو؟ هل كنّا بالفعل منكشفين على بعضنا بعضاً حينما كنا مكشوفي الوجوه؟ الظاهر أن الكمامات قد كشفت لنا، بشيء من المفارقة، أننا لم نكن بالفعل أشد قرباً بعضنا من بعض، إلى حد أنه يمكننا الجزم بأنها قد عملت في النهاية عكس ما كانت تتوخاه، فجعلتنا أكثر انتباهاً إلى الآخر، أو، على الأقل، أكثر اهتماماً به وانشغالاً بتصرفاته، حتى وإن كان الأمر يقتصر على مجرد الحيطة والتخوّف والحذر.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©