الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مفاتيح المستقبل

جان ستون
3 سبتمبر 2020 00:31

يبرز اسم جان ستون Jean Staune الفيلسوف الفرنسي المولود سنة 1963 كأحد أبرز المفكرين الاستراتيجيين المعاصرين. وكواحد من ألمع المثقفين الذين ينصب فكرهم حول توصيف المشاكل والأزمات التي تعاني منها الحضارة المعاصرة، وكذا رصد الحلول الممكنة لها. وجان ستون هو مؤسس الجامعة المتعددة التخصصات، فهو أمينها ومنسقها العام. وحاصل على شهادات جامعية في عدة ميادين، منها الرياضيات وعلم الحفريات والعلوم السياسية وغيرها. وهو أيضاً عضو في نادي بودابست- فرنسا، الفرع الفرنسي لنادي بودابست الذي أنشأه الفيلسوف المجري الشهير إرفين لازلو. وله العديد من المؤلفات نذكر منها كتاب: «وجودنا هل له معنى؟» 2009 و«العلم رهينة» 2010 و«مفاتيح المستقبل» 2015.

ويرى جان ستون أن اهتماماته المتعددة والمتباينة، كانت موجهة بهدف الخروج من الصناديق المعرفية، التي تفرضها علينا الحضارة، وكسر حاجز التخصص بغرض تكوين رؤية شاملة حول الوضع الحضاري العام. ورغم أن اهتماماته تمتد إلى ميادين الاقتصاد والرياضيات والمعلوميات وفلسفة العلوم وغيرها، إلا أن ما يطغى بصفة عامة على أعماله، هو تحديد البراديغم الذي سيتحكم في طبيعة الحضارة الإنسانية غداً، سواء من الناحية الفكرية أو من الناحية الاجتماعية. كما يهتم أيضاً بتقريب العلم من الدين من أجل تأسيس رؤية روحانية للكون والطبيعة.

محدودية الرؤية الكلاسيكية
في كتابه: «وجودنا هل له معنى؟» يؤكد جان ستون على محدودية الرؤية الكلاسيكية، التي نمتلكها حول الكون ومكانة الإنسان فيه. لقد قام العلم الكلاسيكي على فكرة أن الكون عبارة عن آلة كبيرة، مكونة من عدة تروس تشتغل بطريقة ميكانيكية، وأنه، كما صرح لابلاس بذلك، إذا ما عرفنا حالة الكون حالياً، والأسباب المتحكمة في كل ظاهرة، فإنه من المكمن أن نعرف بدقة متناهية الحالة التي يتجه إليها في المستقبل. 

فقدان الطبيعة للمعنى
والحال أن هذا الاعتقاد قد انهار لصالح باراديغم جديد قامت الفيزياء الكوانطية بتأسيسه، والقاضي بأنه من المستحيل أن نعرف بشكل تام الحقيقة النهائية للواقع وللكون، وبالتالي فإن ثمة محدودية للعلم في امتلاك الحقيقة النهائية. وستظل دائماً هناك حقيقة محجبة تتعالى على التجربة وعلى الإدراك البشري. لقد تأسس الباراديغم الكلاسيكي للحداثة على أولية المادة، أما الفيزياء الكوانطية فهي تؤكد على أن ما يعلو على المادة ويتجاوزها، هو ما يمنح معنى للكون. ولذلك يعلن جان ستون في هذا الكتاب عن إمكانية إعادة السحر للعالم le réenchantement du monde وذلك ضد المفهوم الفيبري (نسبة إلى ماكس فيبر) الذي رأى أن العلم والتقدم الاقتصادي، أدى إلى فقدان الطبيعة للمعنى الروحي الداخلي، كما كانت في الأزمنة القديمة. وعلى العكس من ذلك تماماً يرى جان ستون، أن العلم ذاته يعمل اليوم على إعادة السحر للعالم، عبر تجاوز الرؤية المادية الصرفة، واستحضار الجانب الروحي الذي يعلو على المادة ذاتها. كما يؤكد كذلك في كتابه: «العلم رهينة» أن هذا الأخير أصبح خاضعاً، للسلطة التي تفرضها المؤسسات الاقتصادية والتجارية، التي تعمل على فرض حقائق بعينها وتغيب أخرى، حول مواضيع حيوية مثل المناخ والطاقة والصحة. ولذلك وجب تحرير العلم من هذه السلطة، التي ترسم صورة سوداوية وكارثية حول المستقبل، متجاهلة الإمكانات المشرقة التي يمكن العمل عليها.

ملامح عالم الغد
وهذه المقاربة الفكرية الشمولية والمتعددة التخصصات، سمحت لجان ستون بالوقوف في كتابه: «مفاتيح المستقبل» على إدراك اللحظة الانتقالية المتميزة والاستثنائية، التي تمر بها حضارتنا. فهو يعدد في كتابه هذا خمس ثورات هي كما يلي: العلمية، التكنولوجية، الإدارية، الاقتصادية، والمجتمعية، وهي كلها ثورات في نظره ستحدث قطيعة مع الطريقة التي نفكر ونمارس بها حياتنا. وفي هذا الكتاب يقوم جان ستون برسم ملامح عالم الغد، وتحديد المفتاح الذي يمكننا من التكيف مع المستقبل، معتمداً في ذلك على العديد من الحوارات واللقاءات، مع مبدعين ومبتكرين لحلول جديدة تمكن من تجاوز أزمة الحاضر. وفي هذا الكتاب الضخم، الذي يزيد على 700 صفحة، يدافع ستون عن النقيض من الأفكار التي نجدها عند منظري اتجاه ما بعد الإنسانية، الذين يرون أن التطور العلمي والتقني، سيؤدي حتماً إلى تجاوز الكائن البشري الطبيعي نحو كائن مرقى تكنولوجياً. ويرى ستون، عكس ذلك، أن هناك أخطاراً قادمة، تسونامي قادر على اكتساح كل ما نعرفه وما هو معتاد لدينا. ولكن في الآن ذاته، هناك فرص أكيدة كي يتمكن الإنسان من النجاة من الكارثة وإصلاح جميع الاختلالات، وذلك بفضل عنصرين أساسيين هما الذكاء والمعلومات اللذان يمكنان من الإبداع والابتكار، وذلك على عكس النظام الاقتصادي القديم حيث كانت ثروة الأمم تقاس بالذهب.

بناء وعي جديد
ويتحدث جان ستون كذلك عما يسميه العبر حداثة La Transmodernité ويقصد بها هذه الفترة الجديدة التي نعيشها حالياً، التي تتجاوز في الآن ذاته قيم الحداثة الكلاسيكية كما القيم التقليدية العتيقة. وبطريقة مغايرة، فـ«العبرحداثية» هي عبارة عن سيرورة تحترم خصوصية الثقافات المحلية، وتسمح بظهورها وتطوير إمكاناتها، ضد الطابع الشمولي الذي يميز الحداثة، التي كانت تقوم بإقصاء كل ما هو محلي بدعوى التقدم! إن مفاتيح المستقبل إذن في نظر جان ستون لا تكمن في التملك والاستهلاك، بل في القدرة على التعبير عن الذات، وبناء وعي جديد يؤمن بالتحول نحو قيم روحية ما بعد مادية، ومراجعة الأسس التي يقوم عليها المجتمع الصناعي، والإيمان بإمكانية تعايش الثقافات، جنب بعضها بعضاً رغم اختلافها الظاهر. ومن هنا ضرورة ردم الهوة بين الثقافتين: الثقافة التقليدية القائمة على الدين، والثقافة الحديثة المؤسسة على العقلانية الصارمة والعلم والتقنية. فالحوار بين العلم والدين، أصبح ضرورة تفرضها التطورات المعرفية المعاصرة. تماماً كما هو الحال بالنسبة للحوار بين الأديان الذي أصبحت تفرضه الضرورة الحضارية والاجتماعية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©