الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«الشيفرة».. متعة النص

«الشيفرة».. متعة النص
10 سبتمبر 2020 00:08

إن أفهوم «الشيفرة» أو الإشارة لا معنى لها منفردة، ولا تحمل معنى إلا عندما تفسر من حيث علاقتها بعضها ببعض، وأن إنتاج النصوص وتفسيرها يعتمد على شيفرات أو اصطلاحات للتواصل، وبما أن معنى أي إشارة يستند إلى الشيفرة التي تدخل فيها، فإن الشيفرات تقدم إطاراً يضفي فيه على الإشارات معنى، وبالفعل لا يمكن اعتبار أي شيء بمنزلة إشارة، إلا إذا كان يعمل ضمن شيفرة.

ومن الواضح أن تفسير معنى الإشارات الاصطلاحي، يتطلب أن تكون مجموعات الاصطلاحات المناسبة مألوفة عند المفسّر، وتمثل كذلك بعداً اجتماعياً، وتعمل ضمن إطار ثقافي واسع، فالمجتمع يعتمد وجوده على وجود هذا النوع من المنظومات الدالة التي تكمن وراء إنتاج المعاني في الثقافة، ومن هنا نجد الشيفرات تجاوزت كونها اصطلاحات إلى منظومات إجرائية من الاصطلاحات التي تعمل في نطاقات محددة، ويكون السعي إلى الكشف عن الشيفرات والقواعد والقيود المستترة المسؤولة عن إنتاج وتفسير المعنى في كل شيفرة، وتأتي نقطة الانطلاق للتفسير من خلال اللغة البشرية فهي الشيفرة الأولية والأكثر انتشاراً في أي مجتمع، وخاصة حين يبتعد النص عن صانعه عندما يتم التلقي.

أحلام باطنية وخلجات غامضة
فنجد شيفرة الأسطورة باعتبارها تعبير الجماعات البدائية عن معرفتها بالكون والأشياء، فاتخذت لها سمات محددة ميزتها عن غيرها من الأحداث والتعبيرات والشخصيات، فالأسطورة بناء رمزي ذو رسالة مميزة، وخطاب خاص يخاطب العقول في كل عصر وكل آن، وهذا جعله خطاباً يخفي الكثير من الدلالات، التي حملت صفة القدرة على بعث مجموعة من الخبرات القديمة إلى محيط الشعور، وبما تحمل من أبعاد ثورية تعمل على فتح الطريق للتعبير، وذلك من أجل اصطياد التجارب الحية التي تساهم في تقديم رؤى عميقة عن الحياة، وتزيد من تعميقها في تلك التجارب، وهي كذلك عبارة عن لغة شعرية محملة بأحلام باطنية، وخلجات غامضة واتجاهات لا شعورية. 

اللغة التقعيدية الأسطورية
عادة ما نربط بين تسمية «أساطير» وبين الحكايات الخرافية لإنجازات «الآلهة» والأبطال، ويوحي الاستخدام، الشعبي بأن مصطلح «أسطورة»، يرجع إلى معتقدات يمكن البرهنة على خطئها، ولكن ليس من الضروري أن يوحي الاستخدام للمصطلح بهذا، ذلك أن الأساطير كالاستعارات، تساعدنا على إضفاء معنى على تجاربنا في ثقافة ما، فدورها هو تنظيم طرق مشتركة في أفهمة شيء ما والتعبير عن ذلك في ثقافة معينة، ويمكن كذلك اعتبارها مشابهة للدلالة الضمنية وهي مستوى أعلى من الدلالة، بمعنى تنتمي إليه مسائل جغرافية وتاريخية وسياسية واجتماعية ونفسية ودينية مرتبطة بأفاهيم وأشكال قيمية، وإذن يمكن أن تتحول إلى مرويات أيدولوجية -متغيرة ثقافياً- في اعتبار الشكل الأسطوري لغة تقعيدية، ففي حال الأسطورة تصبح اللغة التي تتخذها الأسطورة لتبني منظومتها الخاصة هي مدلول اللغة التقعيدية الأسطورية. 

الذات تشييد اجتماعي
إن الناس الذين يتكلمون لغات تختلف فيما بينها اختلافاً كبيراً من حيث التمييزات الصوتية، والوظيفية والنحوية والدلالية، يختلفون كثيراً من حيث إدراك العالم والتفكير به، فلغتهم هي التي تبلور منظورهم للعالم أو تحدده، أي أن الطرق التي نرى بواسطتها العالم قد تتأثر باللغة التي نستخدمها، ففي الثقافة تكثر الشيفرات الاجتماعية، التي تعبر عن هوياتنا الاجتماعية، وأن الاستخدام اللغوي هو الواسم الأساسي للهوية الاجتماعية، وهو ما يشكل إحساسنا بذواتنا، وخلال استمرارية ما نكرره يتشكل تدريجياً مركز هو الذات، فالذات تشييد اجتماعي، فكل نص هو منظومة تعكس قيماً ومعتقدات وافتراضات وممارسات معينة.

«الإلماح» والصيغ المضمرة
وتبدو التفسيرات ذات الطبيعة التواصلية، والتي تستعمل استعمال «الإلماح» أكثر إثارة للاهتمام، لأنها تُعنى بمجمل الصيغ المضمرة، وتسعمل لهدف ثلاثي: أولاً، حين تساورنا الشكوك حول وجوب التعبير بصراحة أم لا للاحتيال على قانون الصمت في سياق اجتماعي معين، ثم ثانياً، حين تحول أصول اللياقة دون الكلام المباشر، وأخيراً، بقصد بلوغ هدف الأناقة فحسب، فلها سحر يفوق سحر علاقة الوقائع مباشرة، لأنها تضفي على الكلام المزيد من الفائدة واللذة، إضافة إلى أنها تمكّن من الإمتاع في سبيل فك الترميز، والتوصل إلى حل اللغز الذي تشكله الصياغة غير المباشرة.

اختطاف الحال ومحو المعنى
ومهما أسرف المبدع في التجريد والتبديل والحذف والإضمار والتخييل، فإنه يترك لنا بصيصاً من الأمل لإيجاد تواصل مع النص، إلا أن هذا التواصل ينتظر من المتلقي استخدام الأدوات التي تعينه على الكشف والتنقيب حتى لا يتوه في مجاهل متراكبة، تتأبى على السفور، ليصبح الفرد هو الركيزة الأساسية في تكوين المعنى، ولعل تغير مفهوم النص يعد من العوامل التي أدت إلى نشوء طرائق جديدة استفادت من كل التطورات في وعي الإنسانية لأبعاد الكون والذات والمجتمع، وهذا الوعي جعل من النص الشعري مركزاً تشع بؤره الدلالية في اتجاهات متعددة، وطبقات متراكبة، وليتحول من بنية مغلقة إلى بنية منفتحة على الاختلاف والمغايرة، وساعية إلى استضافة اللامعقول والخيالي، وتوجه نحو اللامعنى والفراغ، وأصبح يتأسس على الحجب والخداع أكثر منه على السفور، وحيزاً تتعدد سطوحه، ونصاً مراوغاً تحول إلى مجال إشاري يختطف الحال ويمحو المعنى، ومن هذا المنطلق أصبح تعدد المعنى ولانهائيته سمة من سمات نص الحداثة، الذي التقى مع الإبداع والسياسة والفكر، في أنها جميعاً نتاج البيئة الحديثة التي أعلت من نشاط الفرد في مقابل مركزية الجماعة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©