الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

وجهُ القمر

وجهُ القمر
10 سبتمبر 2020 00:08

عندما كنت أقرأ باكراً فيما تيسر لي من وقت، في بعض الكتب المختلفة في الطبيعة والمجال، محاولاً جعل هذا الوقت النشط من النهار، عادة يوميّة للقراءة ما استطعت، مررتُ ببيت من الشعر في قصيدة طويلة لشاعر العرب الكبير، والخالد لجهة آثاره البديعة والماتعة، أبي الطيب المتنبي (915 - 965م) الذي قيل فيه إنه «ملأ الدنيا وشغل الناس»، وهذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان، فها نحن نعرض لأشعاره، نتأملها ونتفكّر فيها ونتداولها، كما لو أنه حاضرٌ بيننا لم يغب منذ ألف عام ونيّف. يقول أبو مُحسّد في هذا البيت الشعري من قصيدة عصماء له عنوانها «نَرى عِظماً بالبين والصّدُّ أعظَمُ»:

فلم أرَ بدراً ضاحكاً قبل وجهها.. ولم ترَ قبلي ميتاً يتكلمُ
وبعيداً عن القراءة الانطباعية النقدية، العامة أو المتخصصة، لهذه الصورة الشعرية من حيث جماليتها ودقة الوصف وعمق إحالاتها ومكانها في بنائية القصيدة، تساءلت في نفسي: ما قصة تشبيه كل جميل عند الشعراء بالقمر خصوصاً الوجه؟ لماذا يشبهونه بالقمر وليس الشمس؟ فذاك له نوره وهذه لها ضياؤها، فما الذي يؤهل وجه القمر ليحاكي وجه الحبيبة أو ليرتبط نوره ببهائها؟ وما الذي يجعل وجه الشمس وضياءها مستبعداً مهملاً؟ وما الذي يجعل مكانة القمر أرفع مقاماً من الشمس، لدى الشعراء والأدباء وكثير من البشر، والشمس هي التي تمنح القمر نوره؟ ولولاها لكان مُطفأً كالثقوب السوداء في الفضاء، لا تراه عين ولا يستدل عليه أحد؟ أليست الشمس بهذا المعنى هي الأصل والقمر هو الفرع، أو أنها هي الأصل والقمر هو الصورة؟ كون ظهوره إنما هو نتيجة لانعكاس ضوئها وأشعتها. ثم كيف يكون الأصل أقل مكانة من الفرع أو الصورة؟ وأخيراً: هل ثمة صراع بين النهار والليل وما طبيعته؟ هل لهما، النهار والليل -علاقة ما في أولية القمر على الشمس؟ ولمن كانت الغلبة، وما الذي أهّل القمر ليكون كوكباً مختالاً فخوراً؟

سيرة القمر وسيرة الشمس
أسئلة حملتها معي في رحلة إلى التراث الإنساني، ماضيه البعيد وقريبه الحديث، بحثاً عما يمكن الوقوف عنده جلاءً لجانب من سيرة القمر التي طغت على سيرة الشمس لدى الأدباء والشعراء منهم خاصة، لتغدو سيرته من مألوف الناس وسائدهم، كأنها حقيقة ماثلة مسلّم بها، يصعبُ على أحدٍ الاقتراب منها إن نقاشاً أو اعتراضاً.

قمر «المجنون» 
لكن قبل أن نبدأ الرحلة، هل قمر المتنبي هو نفسه لدى الشعراء الكبار السابقين أو المجايلين أو اللاحقين؟ وحظيّ بالوصف ذاته أو الصورة عينها؟ وبالتالي يكون كل ما نقرؤه ما هو إلاّ تكرار ليس إلاَّ؟ أم أن القمر وذكره موجودان لكنّ ورودهما يأخذ صوراً وصياغات متباينة؟ دعونا نلقي نظرة سريعة على قمرٍ لدى شاعر أقدم من المتنبي هو قيس بن الملّوح، مجنون ليلى العامرية 645-688م. يقول:
بَيْضَاءُ باكَرَهَا النَّعِيمُ كَأنَّهَا.. قَمَرٌ تَوَسَّطَ جُنْح لَيْـــلٍ أسْوَدِ
مَوسومةٌ بالحُسنِ ذاتُ حواسدٍ.. إنَّ الحِسانَ مظنّة للحَسّدِ
لا ذكر لتشبيه وجه الحبيبة بالقمر في بيت ابن الملوّح، كما عند المتنبي، بل جاء تشبيهه لبياضها بنور القمر، من دون تحديد، رامزاً فيه إلى النعيم المبكر لحبيبته وعيشها المرفّه.

قمر أبي تمام
وكيف هو القمر لدى شاعر آخر، ظهر أيضاً قبل المتنبي، هو حبيب بن أوس الطائي 803-845م، الملقب بأبي تمّام؟ لنقرأ:
قَمَرٌ تَبسَّمَ عَنْ جُمَانٍ نابــــتِ.. فَظَــلِلْتُ أَرمُــقُــه بِعَيــنِ البَاهِتِ
ما زال يقصرُ كل حُسنٍ دونه.. حتَّى تفاوَتَ عَن صِفاتِ النَّاعِتِ
لقد عاد بنا أبو تمام إلى منطقة الوجه ثانية، ليصف لنا ما كشفت عنه ابتسامته من جُمان (= حبات اللؤلؤ).
حسناً، ولكن هل اقتصر القمر وذكره على الشعر العربي الفصيح، أم أن شعراء العامية عرضوا له هم أيضاً، واستخدموه في أشعارهم بصور تضاهي تلك الموجودة لدى شعراء الفصحى؟

شعراء العامية
لا بأس هنا من أن نقرأ لبعض شعراء العاميّة -لا على التعيين- علّنا نعثر لديهم على قمرٍ مختلفٍ في شكلهِ وتأثير نوره، أقلهُ لجهة الوصف ووظيفة الصورة في بناء القصيدة.
هنالك من شعراء العاميّة من ترك القمر لحاله، وذهب إلى نوره، كما لدى الشاعر الأمير خالد الفيصل الذي يقول في إحدى قصائده:
حدر القمــر صوّت لخلهِ ونــــاداه.. ثلاث مرات وبالرابعــة ونّ
حدر القمر يا ما همس له وناجاه.. وعيونهم ياما بنوره تلاقنّ
وكذلك الشاعر فهد عافت، فالقمر لديه مجرد شُعاع لا يلبث أن ينطفئ، ويبدو أنه لا يحب المنطفئين، بل ينحاز إلى من نورهم دائم الاستمرار في الزمن لا ينطفئ. وفهد عافت أحد شعراء العامية المحدّثة، وقصائده تقترب أحياناً لتكون أشبه بقصيدة النثر لدى شعراء الفصحى المحدثين. نسمعُ الشاعر في إحدى قصائده:
واسميك القُمر، زلة لسان، ومالقا به غير
شعاع ينطفي، وانت اول انوارك بلا تالي
ونكتفي بهذه الإطلالة - الاستهلال، على أن لنا عودة ضافية إلى موضوع النماذج من الشعر الفصيح والعاميّ، للتدليل على اختلاف حالات القمر ونوره وشكله، وطريقة توظيفها لدى هؤلاء الشعراء في قصائدهم الغزلية على وجه التحديد. على ألاّ ننسى موضوعنا الأساس: أولية الليل على النهار، والقمر على الشمس، وأسباب ذلك في التراث الإنساني.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©