الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تودوروف: الحياة عمل إبداعي !

تودوروف: الحياة عمل إبداعي !
17 سبتمبر 2020 00:20

ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي

في هذا اللقاء* الذي أجري مع المفكر والناقد الفرنسي- البلغاري تزفيتان تودوروف (1939- 2017)، أكد أنه لا يعتقد أن الحياة تفسر العمل الإبداعي، وإنما «الحياة» في حد ذاتها عمل إبداعي. فليست حياتنا إلا سلسلة من الإبداعات، بعضها لفظي، والآخر سلوكي، والتفاعل بينهما له دلالة مهمة للغاية، بحسب ما بيّـن، في اللقاء التالي:

ما معنى عنوان كتابك، علامة التوقيع البشري؟
كنت قد فكرت في هذه الصيغة، «علامة التوقيع البشري»، عندما عثرت عليها في كتاب لجيرمين تيليون. أثارت العبارة انتباهي لكونها تُجمل، بمعنى من المعاني، مساري الفكري. ففيها أجد منطلق اهتمامي، أي العلامة، والنقطة التي بلغتها، أي الكائن البشري! عندما بدأتُ أبحاثي خلال سنوات الستينيات، كانت دراسة العلامات، بمختلف تنوعاتها، تشكل إطارها العام. كنت أود استكشاف أوجهها من خلال نظرية في اللغة والأدب والفنون. ثم إني ذهبت إلى البحث فيما يتستر خلف العلامات. ووجدتني ميّالاً إلى فهم السلوك البشري نفسه، وليس أشكالَه وتعبيراته فحسب. وفي الوقت ذاته وجدت نفسي منخرطاً في تقليد فلسفي، أعني النزعة الإنسانية. أطرح على نفسي دائماً أسئلة حول طبيعة الاختيارات الإنسانية: الاختيارات السياسية والأخلاقية والاجتماعية. ومع ذلك، فأنا لا أتوفر على تعريف مطلق للإنسان، إلا أنني أدرس المواقف الرئيسة التي يتخذها البشر أمام التحديات التي يواجهونها في حياتهم.

في هذا الكتاب ترسمون سلسلة من البورتريهات: ج.تيليون، ريمون آرون، إدوارد سعيد، رومان ياكوبسون، ميخائيل باختين.. إلخ. هل يمكن لحياة المؤلفين أن تسلط الضوء على أعمالهم؟
عندما كنت طالباً، كان هناك نوع من العقيدة المترسخة: كان علينا أن نعرِف «المؤلف» و«أعماله». كان أساتذتنا يفترضون علاقة سببية بين المسار الفردي للمؤلف وبين مضمون كتبه. عارض جيلي هذه العقيدة. ففي سنوات الستينيات كنا نرى أن حياة المؤلف، كيفما كانت، تسدي عوناً يسيراً للقراءة، كنا جميعاً «ضد سانت-بوف» على غرار مارسيل بروست... في المنظور البنيوي، كانت الأهمية تعطى للقوانين التي تحكم الحكايات، والدلالات المجازية للقصيدة، لم تكن لحياة المؤلف أهمية في نظرنا. أما اليوم، فإنني لا أعتقد أن الحياة تفسر العمل الإبداعي، وإنما أن «الحياة» بدورها عمل إبداعي. ليست حياتنا إلا سلسلة من الإبداعات، بعضها لفظي، والآخر سلوكي، والتفاعل بينهما له دلالة مهمة للغاية.

كيف؟
تقدم لنا ج. تيليون مثالاً مثيراً للانتباه. فقد أجرت دراسات إثنولوجية خلال سنوات الثلاثينيات، ثم ذهبت إلى الميدان في الجزائر. بعد الانهيار انضمت إلى المقاومة، فاعتقلت وسجنت وقِيدت إلى معسكر اعتقال. عند عودتها، طُلب منها تقديم تقرير حول الفئة العرقية التي درستها، أي قبائل «الشاوية». فتبينت حينئذ أنه لم يعد بإمكانها أن تستعيد أطروحاتها قبل الحرب. هذا مع العلم أنها لم تتلق أي معلومة جديدة حول تلك الفئة العرقية! الشيء الوحيد الذي تغيّر، هو هي نفسها. لقد علمتها حياتها في رافانسبروغ أن تفسّر السلوك البشري على نحو مخالف: آثار الجوع، مكانة الشرف، الإحساس بالتضامن. ولذا فإن هويتها تتدخل في نشاطها العلمي. وهذا يصدق على باقي العلوم الإنسانية الأخرى. فما يخلق مؤرخاً عظيماً، وعالم اجتماع قديراً، أو كاتباً كبيراً، ليس هو مجرد جمع الوقائع وإنما الربط بينها وبين المعنى الذي يعطيه إياها. والحال أن هذا الربط يتم من طرف الذات عن طريق جهاز فكري هو نتاج حياتنا نفسها. وعليه، فإن دراسة العمل الإبداعي لا تسمح بوضع هوية العالِم أو الكاتب بين قوسين. هذا ما أحاول أن أبينه في تلك «البورتريهات»...

كتبتم: «كل مثقف مغتربٌ عن موطنه». لقد عشتم أنتم أنفسكم تجربة المنفى من بلغاريا إلى فرنسا، فيمَ يمكن لهذه التجربة أن تفيد التفكير في العالم؟
أنا أعتبر نفسي «إنساناً مغترباً عن موطنه»، ليس لأنني غيّرت الموطن فحسب، وإنما أيضاً لأنني أميل إلى نظرة غُربة عن العالم. بهذا المعنى، يختلف المثقف عن المناضل. فليس دور المثقف هو أن يقوم بعمل يهدف إلى غاية بعينها، وإنما أن يفهم العالم فهماً أفضل، ومن أجل ذلك، فعليه أن ينفصل عن البداهات. المغترب لا يتقاسم العادات نفسها، ولذا فهو مندهش أمام ما يبدو بدهياً مفروغاً منه عند من يقتسم معهم الموطن الجديد. الغربة تخلق مسافة بين الذات وبين الوسط الذي تعيش فيه، والذي يدفع نحو التفكير. إلا أن النفي الجسدي ليس ضرورياً! كثير من الناس يشعرون بهذا الانفصال من غير أن يعيشوا تجربة النفي الجسدي. لنقل فحسب إن تغيير الموطن، إذا ما تم من غير مآسٍ، فإنه يسهّل الانفصال الضروري للعمل الفكري، ذلك الانفصال الذي يتم على نحو سيئ عندما يكون هناك امتزاج مع الفاعلين الذين ندرسهم.

ما الذي يطلعنا أفضل اطْلاع على البشرية: أهي العلوم الإنسانية أم الأدب؟
الأدب هو أول العلوم الإنسانية، وقد كان هو العلم الإنساني الوحيد خلال عدة قرون. موضوعه هو السلوك البشري والدوافع النفسية والتفاعل بين البشر. وهو لا يزال منبعاً لا ينضب للمعارف حول الإنسان. والعلوم الإنسانية الحالية تظل مدينة للأدب. فالحكايات حول أوديبوس أو أنتيغون هي من القوة بحيث ما تزال تلهم ممارسة العلوم الإنسانية. وبطبيعة الحال، فإن رؤية العالم التي يحملها الأدب لا تشكل قضايا مبنية بشكل منطقي، وقابلة لأن تكون موضع تمحيص واختبار. ينبغي إذن تأويلها كي نتمكن من القول: «هذا ما يعلمنا إياه شكسبير عن سلوك الكائن البشري في هذا الظرف أو ذاك». الأدب في حاجة إلى وسطاء. هذا ما يجعل توظيف المعارف التي يتوصل إليها أكثر عسراً. إلا أننا ندركها عن طريق الحدس، ونحن نعرف كيف نحس بها. ذلك هو السبب الرئيس الذي يحثنا على القراءة. لو لم يتوفر هذا المنظور الذي يفتح على معرفة أفضل بالعالم، فلماذا نكبد أنفسنا مشقة قراءة مغامرات أناس لا معرفة لنا بهم، والأدهى من ذلك أناس لا وجود لهم؟

* أجرى هذا الحوار هـ. ليريتي وك. هالبرن
نشر من جديد في العدد الخاص من مجلة العلوم الإنسانية، ع.25 يوليو- أغسطس 2020

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©